زيارة للأمة المذعورة

TT

السفر الى الولايات المتحدة صار مثل خلع الاضراس، وإن كنت عربيا أو مسلما، فمثل قلع الاظافر، فالقوم الذين تحولوا من خليط غرباء إلى أمة صاروا يخشون كل غريب، ولا يفرقون بين الضيف الرسمي والارهابي المحترف، فالأمم المذعورة تنظر بريبة الى كل قادم وتلغي جميع حواسها، وهواجسها لصالح الهاجس الأمني.

وفوق هذه المرتبة العادية التي ترى في كل قادم مشروعاً إرهابياً أو داعماً للإرهاب، هناك مراتب عدة تحظى بمعاملة خصوصية، فإن كنت سورياً وتعمل في مؤسسة سعودية ـ مثلا ـ فأنت عندهم كامل الأوصاف ويجب ان يفلوك من القدم للرأس ويبحثوا عن بقايا أسلحة الدمار الشامل بين بقايا شعرك المتساقط غيظا من نفسك، لأنك ظننت ان الزمن قد يقلل من حالة الذعر التي اصابت أميركا قبل ثلاثة أعوام بعيدة.

أما المرتبة المثالية لاكتمال الذعر، فتحصل حين تأتيهم من الخارج الى مطار أميركي، وتبدل طائرتك قبل ان تدخل البلد إلى مطار آخر يعرفون من معلوماتهم ان الرئيس أو نائب الرئيس سيعبر في المطار المقصود.

وقد كنت بالنسبة لهم حالة خصوصية نادرة أوشكت ان تبلغ المرتبة المثالية دون علمي، فحين بدلت الطائرة من «اتلانتا» الى «تالاهاسي» عاصمة فلوريدا لم أكن أدري ان ديك تشيني يقصد في اليوم ذاته نفس المكان ليخطب في جامعة الولاية المذكورة. وحين علمت لاحقا ان وجوده على نفس الخط نقلني عند الأمن الاميركي من خانة الخطر الاحتمالي الى الخطر شبه المؤكد، بدأت أجد الاعذار لثلاثة من رجال الجمارك ـ ترأسهم امرأة ـ فتشوا حقائبي بدقة زوجة تشك باخلاص زوجها ثم أعادوا ترتيب قمصاني، وملابسي الداخلية بعناية فائقة وهم يستمعون الى الحديث الضاحك بيني وبين رئيستهم التي انفرجت اساريرها، وانتقلت من العبوس الكشر، الى المرح الحذر فيما كنت اذكرها بالكاتب البريطاني الذي أوشكوا ان يمنعوه من الدخول الشهر الماضي مع انه كاتب السيدة الأولى المفضل.

وقلت للضابطة الرئيسة وأنا اعابثها: هل يحظى بالعناية الفائقة التي احطتموني بها جميع المسافرين أم اصحاب اللحى وحدهم، فأقرت بين الجد والهزل انهم يركزون على الملتحين لأنهم لو فتشوا الجميع بتلك الدقة فإنهم سيحتاجون بغض النظر عن تعطيل حركة المطارات الى عشرة اضعاف العدد المتاح حاليا من رجال ونساء الجمارك والأمن، وحين لمحت الى امكانية مرور ثلاثة أو خمسة من الارهابيين والمهربين بحقائب أنيقة وذقون حليقة اثناء الوقت المكثف الذي امضوه مع حقيبتي، قالت: هذا وارد لذا اتعظ قبلك كثيرون وحلقوا لحاهم ليريحوا أنفسهم ويريحونا.

كانت الضابطة الجمركية خفيفة الظل على عكس الضابطة الامنية التي طلبت بعض المعلومات الاضافية وأرادت أن تعرف عناوين أبي وأمي في سورية، فلما قلت لها إنهما ماتا منذ زمن طويل، وأردفت بأنهما كانا من الطيبين الصالحين، لكن الله وحده يعلم إن كانا في الجنة أم في النار لذا لا أعرف بالضبط عنوانهما الدقيق في العالم الآخر، ارتبكت الشابة، وذهبت الى ضابط أكبر منها سنا ورتبة، وبعد مشاورات هامسة مع زميلها عادت اليّ بالبشرى السعيدة، وطلبت ان اترك مكان عنوان الوالد والوالدة فارغاً، فالموتى مجرد خطر احتمالي، وليس أكيداً لذا يتساهل الأمن المركزي للأمة المذعورة في معرفة مصائرهم، ولا يلح كثيرا في طلب عناوينهم، وأرقام هواتفهم الثابتة والمحمولة.