عاصفة عراقية على واشنطن ولندن.. يفترض أن تدحرج رؤوسا

TT

لو أن سياسيا، عربيا كان أم أجنبيا، سئل قبل أسبوع عما سوف تحدثه فضيحة نشر صور التعذيب والانتهاكات التي مارستها قوات الاحتلال الأمريكي البريطاني في العراق، فإنه لم يكن ليجرؤ ويغامر في رسم سيناريو الأحداث التي حصلت خلال الأسبوع الماضي وتداعياتها.

بداية كان هناك في العاصمتين الغربيتين إنكار لما جاء في الصور المنشورة، ثم تحول الإنكار الى تشكيك بصحة الصور ذاتها مع التحريض المستمر على الفضائيات العربية المعروفة التي كانت وما زالت تنقل من المصادر الغربية ذاتها! وهب في بغداد «بعض من رجال الوضع الإحتلالي الراهن»« ليمدوا «حبال الإنقاذ» ويرددوا ما قاله السيد دونالد رامسفيلد وزير الدفاع الأمريكي حول الصور ومصداقيتها، وكذلك في لهجة التخفيف التي اتبعها بأن تلك التصرفات التي قام بها جنوده لم تكن إلا «أخطاء» فردية قامت بها «ثلة منهم» مع مقارنة الحجم العسكري الأمريكي الذي يحتل العراق والبالغ بحدود مائة وخمسة وثلاثين ألف جندي أمريكي! هذا عدا البريطانيين والآخرين من قوات التحالف!! وحقيقة فإن «حبال الإنقاذ» تلك كانت جد قصيرة وتالفة ولم تفد قط حتى فيما ساقوه من تبريرات مخجلة حينما قارنوا بين «ديمقراطية الوضع الراهن!» وجرائم صدام حسين ونظامه القمعي المباد، متناسين بأن تلك اللحظة التاريخية ليوم التاسع من أبريل 2003 التي تمثلت في سقوط تمثال الديكتاتور وعهده في ساحة الفردوس ببغداد لم تكن من صنعهم إطلاقا، وإن حاولوا من أول يوم لتشكيل مجلس الحكم الانتقالي ببغداد في 13 /7 /2003 اختطافها وإلباسها ثوب «العيد الوطني»!

وتتالت أحداث الأسبوع الماضي في العاصمتين الغربيتين، وكبرت كرة الثلج الحقيقية بعيدا عن الأكاذيب والتضليل، وكرت اعتذارات المسؤولين الأمريكان: في واشنطن، وزير الخارجية كولن باول، مستشارة الأمن القومي الأمريكي كوندوليزا رايس، الجنرال جابنسكي التي كانت المسؤولة عن سجن أبو غريب والتي نفت علمها بما حدث ووجهت الاتهام بذلك الى عناصر المخابرات الأمريكية المتواجدين في السجن، والجنرال مارك كيميت المتحدث الرسمي باسم قوات التحالف ببغداد الذي صاغ عباراته بأقوى كلمات الاعتذار محاولا أن يدافع عن العسكرية الأمريكية وشرفها الذي لوثته الجرائم المرتكبة بحق المعتقلين العراقيين، ولم يختلف الوضع كثيرا في لندن عما هو عليه في واشنطن، حيث نقرأ ما تكتبه الصحف البريطانية ونشاهد ونسمع ما يدور في مجلس العموم البريطاني ومختلف الأوساط السياسية الرسمية والشعبية في محاولة الجري لمعرفة الحقيقة والفاعلين من البريطانيين وقد بلغ الأمر بأن الجنرال مايك جاكسون ـ رئيس الأركان البريطاني ـ صرح علانية بأن من سوف تثبت عليه من العسكريين البريطانيين العاملين في العراق تلك التهم سوف لن يكون جديرا «بارتداء البزة العسكرية لقوات المملكة»! وبلغت ذروة العاصفة السياسية في واشنطن خلال يوم الأربعاء الماضي في اللقاء الذي أعطاه الرئيس جورج بوش لقناة «العربية» الفضائية وكان موجها بشكل خاص للشعب العراقي والأمة العربية، وحينما وجدوا وبسرعة أن ذلك لم يكن كافيا حيث لم تتضمن عبارات الرئيس الأمريكي أية كلمة اعتذار عما حصل، سارع الرئيس بوش ليعلن وبعد أقل من أربع وعشرين ساعة وفي لقائه مع العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني بواشنطن ويقدم اعتذاره الرسمي العلني للشعب العراقي عما حصل ويعد بأن يعاقب كل من تثبت عليه تلك التهم من الأمريكيين.. ويوم الجمعة 7 /5 /2004 مثل وزير الدفاع الأمريكي رامسفيلد وبرفقته رئيس الأركان الأمريكي ريتشارد مايرز أمام الكونغرس الأمريكي في جلسة استماع علنية في الموضوع ذاته والتي قد تستغرق أياما قادمة.

وعودة لما بدأته، لا أحد يستطيع التوقع الدقيق لما سوف تخلفه هذه العاصفة السياسية في واشنطن ولندن ولكننا على الأقل نستطيع تتبع بعض الآثار التي سينجلي عنها الموقف ضمن المفردات التالية:

1ـ هناك ثمن سياسي سيسدده بعض من هم في الإدارة الأمريكية الحالية، ولربما أن دونالد رامسفيلد هو أقوى المرشحين لتسديد هذا الثمن السياسي وذلك لمسألة جد خطيرة ومهمة تناولها الإعلام والقائلة بأن رامسفيلد كان على علم بالانتهاكات الوحشية ضد المعتقلين العراقيين رسميا منذ شهر كانون الثاني الماضي وليس معروفا لحد الآن طبيعة الإجراءات التي اتخذها بحكم مسؤولياته ومنصبه.

2ـ الغريب أن الشق السياسي لسلطة الاحتلال ببغداد والمتمثلة بالسفير بول بريمر الثالث، قد لزم الصمت عما جرى ويجري وكأن الأمور لا تعنيه وهو المسؤول الميداني الأول في العراق، وليس من الطبيعي أن يقدم الرئيس الأمريكي اعتذاره للشعب العراقي، هذا في الوقت الذي يبقى فيه الحاكم بأمره ببغداد بول بريمر متواريا خلف الأحداث بدل أن يكون سابقا لرئيسه معتذرا ومتحملا كل النتائج للدفاع عن الرئاسة الأمريكية ورمزيتها السياسية الحقيقية والمعنوية لدى الشعب الأمريكي، خصوصا وأن الرئيس بوش وعلى ذمة الأخبار لم يعرف بهذه الفضائح إلا وقت نشرها على محطات التلفزة والصحف الأمريكية!

3ـ وفي بريطانيا ستزيد هذه القضية من متاعب رئيس الوزراء البريطاني السياسية أمام قطاع عريض من حزب العمال الحاكم إضافة للمعارضة والتي ما انفكت تبدي تذمرها من التبعية والانقياد البريطاني للسياسة الأمريكية من جهة وما سوف يتخذه بلير من إجراءات لتجاوز هذا الموقف ـ الورطة لما قام به بعض الجنود البريطانيين في العراق، ولن يتحمل سقف الأحداث في هذا الملف أقل من اعتذار رسمي بريطاني للشعب العراقي وما يعنيه ذلك من دفع ثمن سياسي أيضا.

4ـ عندما تسلم الرئاسة الأمريكية الرئيس الراحل جون كنيدي في 20/1/ 1961، كانت وكالة المخابرات الأمريكية وعلى رأسها ألن دالاس منذ أيام الرئيس الذي سبق آيزنهاور قد استكملت كل الاستعدادات لغزو كوبا فيديل كاسترو عام 1961، وأعطى كنيدي موافقته، وكانت كارثة الغزو الفاشل المعروفة باسم «خليج الخنازير»، مما جعلت الرئيس الجديد يعترف بتحمله لمسؤولية ما حدث، هنا قدم ألن دالاس استقالته من منصبه لأنه شعر بعدم جدارته بالاستمرار في موقعه بعد أن دخل رئيس الولايات المتحدة ليتحمل المسؤولية عنه، وعلى هذا القياس والتقليد يمكن أن يتقدم دونالد رامسفيلد وبول بريمر باستقالتيهما من موقعيهما بعد أن تجاوزهما الرئيس بوش وقدم الاعتذار الرسمي للشعب العراقي.. أو أن يقدم الرئيس بوش نفسه ليقيل من يراه مسؤولا سياسيا وعسكريا عن هذه الفضيحة مقتفيا أثر الرئيس الأمريكي السابق رونالد ريغان في إقالته وزير خارجيته الجنرال ألكسندر هيغ من منصبه إبان الغزو الإسرائيلي للبنان العام 1982 وتعيين جورج شولتز بدلا عنه.

5ـ إن هذه الاعتذارات والسعي الجدي لملاحقة المتهمين من المتجاوزين الأمريكان والبريطانيين وإحالتهم للقضاء لمحاسبتهم وإيقاع العقوبات عليهم، لا تلغي حق الضحايا الثابت من العراقيين وذويهم في التعويض المعنوي والمادي العادل جراء التعذيب والانتهاكات اللاأخلاقية الوحشية وخصوصا أن عددا منهم قد فقد حياته جراء التعذيب في سجون الاحتلال بالعراق..

6ـ تكشف هذه القضية المأساوية عن مدى الحاجة الملحة والضرورية لدور الأمم المتحدة البناء وتوسعه في العراق وصولا لتسلم العراقيين للسيادة على الأرض والدولــــــة العراقية في الثلاثين مـــــن حزيران المقبل وعن ضرورة مشاركة الأطراف العراقية السياسية ومن غير استثناء لأحد وتحت إشراف الأمم المتحدة المباشر في وضع الأسس لتشــــــكيل الحياة الوطنية العراقية الجديدة في عراق ديمقراطي موحد مستقل ومسالم، ووفقا لما كنا ننادي فيه ونعمل من أجله في حركة المعارضة الوطـنية العراقية لعقود في عــــهد صدام حسين المنهار.