اليمن في عهد الإمام يحيى بين مطرقة التحديث وسندان المحافظة

TT

من الطبيعي أن تختلف الآراء والمواقف حيال الشخصيات العامة التي دخلت التاريخ وتركت أثراً ملموساً في حياة الشعوب، وبالتالي فالحقيقة موزعة بين الناس، كل يراها من جانب أو زاوية معينة. إلا أنه ما من شك في أن الكثير من الكتاب والمثقفين لا يعرفون عن تاريخ الإمام يحيى حميد الدين مؤسس اليمن الحديث والذي حكم قرابة نصف قرن (1904 - 1948) إلا بالقدر الذي يطلعون عليه في أدبيات ومطبوعات الانقلابيين الذين رسموا صورة مجحفة نمطية للإمام، عمادها الاستبداد والتخلف والعزلة مما أوقع الباحثين في خطأ أحادية الفكر لاعتمادهم على مجرد النقل غثاً أو سميناً لوقائع تاريخ الإمام، فلم يعرضوها على أصولها ولا قاسوها بأشباهها في جزيرة العرب في ذلك العهد، مما حجب عن الجمهور الصورة التاريخية الحقيقية. وبالتالي فإن من ينشد المعلومة الصحيحة يحتاج إلى وقفه محايدة وقراءة متأنية مسؤولة متجردة عن المواقف المسبقة.

إن المتتبع لكتابات التيار الانقلابي عن تاريخ الإمام يحيى يلاحظ الإغفال المتعمد لمعايير الزمان والمكان بمحاكمة عهده بمعايير اليوم بما فيه من حالة تنعم ورخاء ودعة في العيش، واجتزاء تاريخه عن السياق التاريخي والاجتماعي والثقافي لجزيرة العرب، ومقارنة اليمن ببلاد المشرق العربي ومصر آنذاك. فهم عندما يتهمون الإمام بالتقصير في تحديث اليمن وتنميته في تلك الحقبه ينظرون للأمر بسطحية البسطاء كمن يهتم بسقف البيت قبل الاهتمام بالأساس، وهذا قصور في الرؤية وخلل في المنطق لأن حال اليمن في الثلاثينات والأربعينات من القرن الماضي كان من حال جزيرة العرب التي كانت لا تزال في طور التأسيس والظروف القاهرة، ولم يبدأ فيها النشاط التنموي الفعلي إلا في منتصف الستينات وإن كان هناك بعض المشاريع البسيطه التي لم ترق إلى مستوى الخطط الخمسية، في حين إن مصر وبلاد المشرق العربي قد تجاوزا مرحلة التأسيس وسبقا جزيرة العرب في البناءْ والتنمية بقرن من الزمان بسبب حملة نابليون على الشرق عام 1798 التي أيقظت المجتمعات هناك من سباتها العميق.

فالمجتمع اليمني كان لا يزال يحمل في ثناياه إرثاً صعباً تظلله ثوابت محافظة تقليدية لها جذور راسخة وبعيد عن أي تواصل حضاري وتفاعل مع العالم الخارجي بسبب وعورة الجغرافيا وقرون من الحصار العثماني الذي فرض التخندق في الجبال، وفجأة ضربته رياح عاتية من المتغيرات المتسارعة التي لم يسبق لها مثيل في التاريخ بعد سقوط الدولة العثمانية مما اضطره لمواجهة العالم بما فيه من فضاء خارجي غير معهود وعلاقات دولية بدون أي مقدمات مما أوقعه في حالة من الصدمة الحضارية والفصام لم تساعده على استيعاب عملية التحديث طفرة واحدة بين عشية وضحاها.

وقد أدرك الامام يحيى خطورة هذا الوضع لأنه كان أكثر التصاقاً بالواقع وفي ذهنه حسابات الربح والخسارة وليس الارتجال. فلم يكن بإمكانه في ذلك المفصل التاريخي سوى الصبر والموازنة الدقيقة بين المصالح والمفاسد والمناورة لتطويع النفوس على تقبل الانفتاح والتدرج في التحديث بعيدا عن الاستفزاز، لأن أي مواجهة مباشرة مع التيارالمتزمت كان يعني فتنة مدمرة لا يعلم مداها الا الله ، فليس من الحكمة أن يفتح الامام جبهة مواجهة داخلية وهو لا يزال تحت وطأة التهديد المستمر من بريطانيا التي كانت تتربص به وتحتل نصف اليمن ودخلت في صراع مباشر معه لإرباك قدراته على التحرك وشل إمكانياته للقيام بأي مبادرات لإبقائه أسيراً لردود الفعل المتلاحقة ولإنهاكه وعدم اعطائه هامشاً لالتقاط الانفاس والتعافي.

ويتجلي ذلك واضحاً في قيام الطائرات البريطانية بقصف المدن اليمنية كالضالع وتعز وقعطبة والقيام بطلعات جوية في مدن أخرى للاستفزاز وانتزاع الحديدة، ميناء اليمن الطبيعي، وتسليمها لحليفهم الإدريسي.

واللعب على الوتر الطائفي بتقديم المشاهرات للقبائل الشافعية للخروج على سلطة الإمام إلى درجة أن شيخ قبيلة الزرانيق في تهامة قدم شكوى بتوجيه من بريطانيا إلى عصبة الأمم المتحدة مطالباً بفصل تهامة اليمن عن سلطة الامام يحيى وإقامة دولة شافعية هناك. بالإضافة لدعم وتشجيع بعض الأسر الاقطاعية في منطقة تعز واليمن الأسفل على الثورة والعصيان المسلح للانضمام إلى المحميات البريطانية في الجنوب واحتضان أحزاب المعارضة في عدن كحزب الأحرار متمثلاً في الزبيري وغيره.

وبالرغم من كل تلك التحديات في الداخل والخارج فإن الامام لم يستكين لتلك الظروف القاهرة ولم يسلم الأمر لبريطانيا وسعى ضمن ظروف وإمكانيات عصره لبناء الدولة ابتداء من الصفر والتحديث بخطى متعقلة بعيدة عن الجموح والتهور، وهو ما أغفله تماماً وسعى لطمسه عمداً الكتاب الانقلابيون، فعلى سبيل المثال وليس الحصر قيامه بافتتاح الاتصالات البرقية والبعثات الدبلوماسية والإذاعة اليمنية ومصانع الغزل والنسيج ومصانع الذخيرة الحربيه وابتعاثه الكثير من البعثات الأكاديمية إلى العراق ولبنان وإيطاليا وتوج الرغبة في التحديث بإرسال وفد حكومي إلى اليابان عام 37م ممثلاً بإبنه الأمير سيف الإسلام الحسين لعقد اتفاقية للتنمية الشاملة، إلا أن قيام الحرب العالمية الثانية وإغلاق البحار حالا دون ذلك.

كل هذه الحقائق تفند الادعاءات التي تقول بأن الامام سعى لتجهيل شعبه وحرص على عزله عن كل ما يمت بصلة للعصر. وما يعزز الرأي بأن الامام لم يكن ضد مبدأ الاصلاح والتحديث ولم يتبع سياسة العزلة أنه بعد أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها بعث الامام وفدا حكوميا آخر ممثلاً بإبنه سيف الإسلام عبد الله إلى الولايات المتحدة الأمريكية عام 1947، لعقد اتفاقية سياسية اقتصادية كان من ثمراتها وصول بعثة أمريكية الى اليمن للتنقيب عن النفط والمعادن مما أثار حفيظة بريطانيا التي شعرت بتهديد مصالحها المباشرة في جزيرة العرب وميل كفة التوزان الاستراتيجي لصالح اليمن على حساب مستعمرتها في الجنوب، فسارعت بريطانيا لدعم مؤامرة لاغتيال الإمام يحيى عام 1948، تحت مسمى حركة الدستور بقيادة عبد الله الوزير ومشاركة الأخوان المسلمين، ويتجلى ذلك التنسيق والتعاون بين الانجليز وابن الوزير في البرقيات التي أرسلها عبد الله الوزير إلى المندوب السامي في عدن طالباً إرسال الطائرات إلى صنعاء والبوارج الحربية إلى الحديدة لتثبيت حكمه بعد أن قام باغتيال الإمام يحيى وعمره 83 عاماً ورئيس وزرائه القاضي العمري واثنين من أبناء الإمام وهم الحسين والمحسن حتى حفيد الإمام وعمره 7 سنوات لم يسلم من الاغتيال.

إلا أن بريطانيا اكتفت بإرسال البوارج إلى الحديدة ريثما ينجلي الموقف لأن سيف الإسلام احمد الابن الأكبر للامام يحيى شرع في حشد القبائل حوله لإسقاط الحركة ولكنها استمرت على الخط مع المتآمرين عن طريق البرقيات والتوجيه، أما الأخوان المسلمون فقد كان لهم شأن آخر فقد مثلوا التنظير والمرجعية الفكرية للحركة، فهم من وضع الميثاق المقدس للانقلاب وهم من أرسل الفضيل الورتلاني إلى اليمن ممثلاً المرشد العام حسن البنا الذي كان يرى في اليمن أرضا خصبة لنشر دعوته باعتبار أنها بلد خام لم تستعمر بعد ويمكن استخدامها كقاعدة للانطلاق وتعزيز الحركة في مصر.

وخلاصة كل تلك المعطيات والقرائن المذكورة آنفاً نجملها في الآتي:

إن انقلاب عام 48 لم يكن يمثل نبض الشارع اليمني، ولم يأت نتيجة تطور داخلي وحراك اجتماعي طبيعي هدفه التحديث بل كان انقلاباً إرهابياً أستخدم العنف وسياسة الاغتيالات للوصول إلى السلطة، وهذا مخالف للشرائع الدينية والدولية كافة، ويعتبر أول سابقة في تاريخ العرب الحديث تبذر الإرهاب والعنف باغتيال رأس الدوله ورئيس الوزراء. كان وراء هذه الحركة أجندة بريطانية وطابع خارجي مستورد يتمثل في مشاركة الأخوان المسلمين وجميل جمال العراقي، الذي كان مرسلا من بغداد تحت شعار البعثة التدريبية العسكرية لليمن، وقام باغتيال ابناء الامام الحسين والمحسن شخصيا.

إن رجال الحركة ما هم إلا من الأسر النبيلة الطامعة في الحكم نتيجة قربها من دوائر القرار والسلطة، فقائد الانقلاب هو عبد الله بن احمد الوزير الذي كان الساعد الأيمن للامام يحيى ومن أعمدة نظامه الذي خدمه لأكثر من 30 عاما. أما رئيس الوزراء الحركة فهو ابن عمه علي بن عبد الله الوزير الذي يمت بصلة اصهاره مع الإمام يحيى مما يمثل خيانه للعهود وانتهاك قيم دينيه وأخلاقية.

إن الشعار الدستوري الذي رفعته الحركة لم يكن مستوعباً للواقع الاجتماعي والثقافي لليمن في الأربعينات، ولم يراع سنن ونواميس الكون ولا تدرج الايقاع الزمني لحركة التاريخ الذي يستحيل فيه التحول الفوري بين عشية وضحاها من مجتمع قبلي تقليدي محافظ إلى مجتمع دستوري مدني، لأن التحول على هذا المستوى يحتاج إلى مخاض تاريخي طويل.

إن حركة 48 سقطت بعد 3 أسابيع من قيامها عند أول محك حقيقي مع الشرعية التي مثلها الامام أحمد بن يحيى حميد الدين الذي استطاع أن يجند الفضاء القبلي لصالحة للانتقام من قتلة أبيه.

إن الانقلابيين بعد فشل حركتهم لم يجدوا ما يبرر جريمتهم النكراء فعملوا على لوي الحقائق بجعل كل ممدوحة للامام يحيى سلبية، فأمانته وعدم استئثاره وأسرته بالمال العام اصبح بخلا، ومحاربته لبريطانيا وحرصه على الاستقلال اصبح انغلاقا، واستخدامه للأكفاء من ابناء شعبه اصبح استبدادا والتزامه بنسق الفضيلة والمسوؤلية الدينية اصبح تخلفا وضررا على البلاد.