مأساة «ينبع» تعلّمنا أن الإنسان هو الأهم

TT

ها هو البعوض الإرهابي يتوالد، يتكاثر ويتناسل، ويمد يده ليعبث بأمن الوطن، ليثخن في جسده المحموم جراحاً وإيلاماً، ويعيث في أرضه فساداً وإيذاءًً. وفي فترة وجيزة بلغت عشرة أيام فقط من عمر الزمن، توالت اللطمات وتتابعت الهجمات لتستيقظ المملكة العربية السعودية مع تباشير يوم السبت الثاني عشر من ربيع الثاني من هذه السنة الهجرية (1 مايو 2004) على ضربة أليمة وُجهت لها في عقر أمنها واطمئنانها. وذلك في واحدة من تلك المدن الهادئة والصغيرة، والقابعة بسكينة واطمئنان على شاطئ البحر الأحمر «ينبع» تلك المدينة التي بُني فيها صرح صناعي متطور هو مدعاة للفخر والزهو، واستقطبت عدداً كبيراً من الكفاءات العلمية لتقدم للوطن خلاصة علمها ومعرفتها وجهودها. استيقظ سكان هذه المدينة مع تناسيم الصبح على أصوات انفجارات وفرقعة قنابل، روعت الآمنين وأقضت مضاجع من كان لا يزال في فراشه، وأفزعت أولئك الذين كانوا يتوجهون إلى أعمالهم، أو يذهبون إلى مدارسهم وكلياتهم.

وهو مشهد تكرر كثيراً في السنتين الأخيرتين في أرجاء الدنيا وعلى امتداد أطرافها الواسعة، وباتت تفاصيله ونتائجه والملحقات التي تتبعه أمراً مألوفاً ومتعارفاً عليه، حتى عند من لم يكتوِ بناره ولم يتجرع لذع مرارته. فالمحطات الفضائية صارت تتنافس في نقل عذابات البشر ومعاناتهم، ووكالات الأنباء تتدفق منها صور الدمار والهلاك، حتى فقد المتلقي العادي ذلك الإحساس بفظاعة تلك الأعمال وبشاعتها، وحتى الطفل الغض صار يشاهد تلك الصور بأحاسيس متجمدة ومشاعر تميل إلى اللامبالاة، فتكرار الأشياء يفقد البشر الدهشة، ويسلبهم بريق الاستغراب والاستنكار. أما الأبرياء الذين قيض الله لهم أن تكون حياتهم مسرحاً لهذا الحدث أو ذاك، والمتناثرون على رقعة الكرة الأرضية من شمالها إلى جنوبها ومن شرقها إلى غربها فهم الضحايا الحقيقيون لهذا الوحش الضاري. من نيويورك إلى مدريد إلى بانكوك إلى فلسطين، وأخيراً امتدت أنيابه المفترسة لتنهش أمن وطننا، ولتصيب هدوءه واطمئنانه في مقتل. لتكسو ملامح أطفالنا علامات الرعب، وترتعد فرائص الأمهات خوفاً على أبنائهن من ضربة إرهابية أو قنبلة انتحارية، وهم يحملون حقائبهم ذاهبين إلى مدارسهم أو قادمين منها، أو حتى متوجهين إلى نزهة ترفيهية أو زيارة عائلية.

ها هي نار الإرهاب تمتد إلى ثيابنا، وشرارته القوية تمسك فيها وتقبض على تلابيبنا، وتضعنا وجهاً لوجه في مواجهة قاسية مع أمر لم نألفه، ولم نعتد التعامل معه. وهذا يقودنا إلى سؤال ربما طال تجاهلنا له، أو يبدو أننا قررنا وأده والإطباق على عنقه قبل أن يبدأ في الإلحاح والظهور.. أليس للإرهاب وقتل الأبرياء نفس الأثر وبشاعة الجرم مهما اختلف المكان أو تباين الزمان ؟! ومهما اختلف المعتقد أو الدين ؟! ومهما ابتعدت المسافة وتغيرت هوية الضحايا أو جنسياتهم ؟! أم أن قسوة البشر لا تجعلهم يدركون فظاعة الأمور إلا حين يكونون هم طرفاً فيها، وحين تنهش بقسوتها أمنهم وسلامهم، وتمزق دعتهم واطمئنانهم ؟!

والحقيقة اللاذعة المرارة تقول إن هناك في ثقافتنا ما يحقننا منذ نعومة أظفارنا بكراهية الآخر المختلف، وبالرغبة في التشفي بمن يدين بغير ديننا أو حتى يخالفنا في المذهب، وذاكرتي لا تزال حية بالكثير من الصور التي ترسخت في عقلي الباطن منذ الطفولة لأغاني وحكايات كانت تذكي مشاعر الكراهية فينا كأطفال على النصارى واليهود وبعض الطوائف الإسلامية الأخرى وباختصار: كل من هو مختلف عنا. وهناك أهزوجة لا تزال ذاكرتي تستحضرها كانت تهدهد بها الأمهات أطفالهن للنوم، وفيها تستنكر الأم أن يموت طفلها فترفض أن يمس ولدها أي ضرر، بينما تبعث بوحش الموت المفترس إلى القط والفأر والنصراني واليهودي. ولطالما لمسنا النشوة تقفز من أعين الكثيرين إبان حدوث أية كارثة طبيعية تصيب بلاد الكفار على حد ما عُلمنا وأًفهمنا. كما أن الكثيرين منا قد صفقوا وهللوا وباركوا عند سقوط برجي التجارة العالميين في ذلك اليوم المشؤوم، والذي أدى إلى سقوط آلاف الضحايا الأبرياء في 11 سبتمبر، وأفئدتهم ترقص طرباً عند حدوث أي وباء صحي أو كارثة بيئية تحدث في الغرب، غير عابئين بالأرواح البريئة التي من الممكن أن تجتثها وتقضي عليها. وغالباً ما يرددون أن هذا هو انتقام الله سبحانه وتعالى من الكفرة الفجرة.

ومما يثير العجب حقاً أن هذه المشاعر العدائية، والمحتقنة بروح الكراهية والتشفي تتناقض تماماً مع روح وقيم ديننا الأصيلة، والتي تمثل الرحمةُ والرأفةُ العمودَ الفقري لها، واللبنة الأساسية في بنائها وتكوينها. هذا الدين العظيم الذي يدعونا إلى الرفق بأرواح الحيوانات، فما بالك بالأرواح الإنسانية البريئة !! قال تعالى«وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم» ورسولنا محمد صلوات الله وسلامه عليه هو نبي الرحمة الذي قال الله تعالى عنه «وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين». بل لقد كان هو الرحمة مجسدة ومتمثلة في بشر، فهو الذي كان يرق لآلام كافة الناس ويسعى للتخفيف عنهم ويأسى لأخطائهم فيتمنى لهم الهدى، وعندما طلب منه أصحابه أن يدعو على المشركين يوم أحد بعد أن سالت دماء الصحابة الزكية، وشُق خده صلى الله وسلامه عليه وسقط سنه ما كان دعاؤه إلا لهم لا عليهم، فقال «اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون». وقد كانت تعاليمه هي النبراس الذي نبعت منه تلك الخطبة التي تفيض رحمة ورفقاً والتي ألقاها أبو بكر الصديق رضي الله عنه على الجنود الذاهبين لفتح بلاد الشام، وقد قال لهم فيها «لا تخونوا ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا طفلاً صغيراً، ولا شيخاً كبيراً، ولا امرأة، ولا تعقروا نخلاً ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيراً إلا لمأكلة. وسوف تمرون بأقوام قد فرغوا أنفسهم في الصوامع فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له». ويجب أن نضع في اعتبارنا أن هذه الخطبة ألقيت في جنود متوجهين للحرب وفي وقت لم تكن تتوفر فيه وسائل دعوية أخرى لكي تبلغ بها رسالة الإسلام، وهي غيض من فيض بشائر الرحمة التي رسخ لها رسولنا الكريم، وجذرها في نفوس صحبه الكرام.

الإرهاب فكر قبل أن يكون سلوكا، وحتى نتخلص من هذا الوبال يجب أن نثوّر ونحيي نزعة الأنسنة الموجودة في ديننا، ونزرع الحب في قلوب أبنائنا وبناتنا للجنس البشري، فحين تملأ قلوبهم الرحمة والمحبة سيعرفون أنه لا فكرة أو أيديولوجية تساوي روح إنسان، أو تكافئ قيمته.

* كاتبة سعودية