لأول مرة : واشنطن في موقف الدفاع وليس الهجوم

TT

منظر الإدارة الاميركية هذه الأيام يدعو إلى الرثاء، وهو ما لم يخطر على بال أحد ممن تابعوا أداء المتحدثين باسم الإدارة في مثل هذا الوقت من العام الماضي، حيث كانوا يتباهون بإسقاط بغداد، ويسهبون في الحديث عن العراق الجديد، الذي رشحوه ليكون نموذجا للدولة الحديثة والديمقراطية التي يتطلع الجميع الي احتذائها، وحين كانوا يلوحون بإعادة رسم خريطة الشرق الأوسط، لكي يكون أكثر تهذيبا واستقامة، وأكثر تماهياً مع السياسة الاميركية .

وقتذاك، كانت المعنويات الاميركية في السماء، وكان وزير الدفاع دونالد رامسفيلد لا يكف عن غمز وتقريع الدول الأوروبية التي عارضت غزو العراق، متحدثا عن أوروبا القديمة والعجوز، وأوروبا الجديدة الصاعدة ـ وكانت مصادر البيت الأبيض ووزارة الدفاع تتحدث عن معاقبة دول الضد، وحرمانها من الاشتراك في عملية تعمير العراق، أما حديثها عن الأمم المتحدة فقد كان يتراوح بين اللامبالاة والازدراء .

ليس ذلك فحسب، وإنما كان تقدير المخططين في واشنطون أن الأمور سوف تستقر في العراق خلال عام تماما، خلال شهرين أو ثلاثة على أبعد الفروض . وأن الرياح في المنطقة سوف تأتي للأميركان بكل ما يشتهون، ولذلك رتبوا أمورهم لكي توظف الإنجازات الاميركية في المنطقة لصالح حملة الرئيس بوش الانتخابية، بحيث تطلق أقوى قذائف الحملة في شهر يونيو (حزيران )، على نحو يجهض في وقت مبكر حملة منافسة السناتور الديمقراطي جون كيري .

بمقتضى هذا السيناريو فقد رأى مخرجو الحملة أن تجري انتخابات الرئاسة الأفغانية في شهر يونيو ( اشترطوا أن يكون الرئيس ـ المنتخب ديمقراطيا ـ هو الرئيس الحالي حامد كرزاي، رجل أميركا في أفغانستان الجديدة ). وإتمام هذه الخطوة يمكن الرئيس بوش وهو يقدم كشف حسابه أن يسوقها باعتبارها إنجازا: نقل أفغانستان من حكم طالبان المتخلف إلى حكم الدول العصرية الديمقراطية الحليفة لاميركا، وقدروا أيضا أن تسلم السلطة إلى العراقيين في الشهر ذاته 30 يونيو، الأمر الذي يمكن الرئيس بوش من الادعاء بأنه حرر العراق من استبداد صدام حسين وظلمه، ثم سلمه إلى أهله ُمعافى وديمقراطيا، كما اعدوا عدتهم لتوقيع الاتفاق بين الشماليين والجنوبيين على نحو ينهي سنوات الحرب في السودان، ويعيدون إلى البلد وحدته وسلامه واستقراره .

تصوراً أن ذلك كله سوف يتم خلال شهر يونيو أو قبله بقليل، الأمر الذي يجعل من الشهر منعطفا مهما للغاية في حملة الانتخابات الرئاسية، يوفر للرئيس بوش دفعة قوية إلى الأمام، ويسدد ضربة موجعة وربما قاضية لمنافسه كيري .

غير أن الرياح جاءت بغير ما يشتهون، فلم يستطع الرئيس كرزاي أن يجري الانتخابات في أفغانستان، وأجلها إلى شهر سبتمبر ( أيلول )، بعدما اكتشف أن حلفاءه الطاجيك تخلى اغلبهم عنه، أما أهله البشتون فلم يكونوا مؤيدين له من البداية، فضلا عن التصعيد الذي قام به أنصار طالبان في المناطق البشتونية، وحين لم يجد مساندة شعبية له، فإنه آثر تأجيل الانتخابات لكي يعيد ترتيب أموره ويضمن بقاءه في منصب الرئاسة، وهناك شك كبير في أن يستطيع إجراء الانتخابات التي يريدها في الموعد الجديد .

أما اتفاق الجنوبيين مع الشماليين فهو لا يزال متعثرا، وهناك معلومات تشير إلى انه قد يوقع هذا الأسبوع أو الذي يليه، هذه الجملة تتردد منذ أشهر ! إلا أن ذلك إذا تم فإنه لن يحقق السلام والاستقرار المنشودين، لأن حكومة الخرطوم واجهت مشكلة جديدة في دارفور، أما الوضع في العراق فإنه لم يكن يبشر بخير قبل فتح ملف تعذيب العراقيين، فقد أوجعت الاميركيين عمليات المقاومة في الفلوجة والنجف وكربلاء والموصل وبغداد، الأمر الذي ضاعف من أعداد القتلى الاميركيين، وجعل من شهر ابريل (نيسان ) الماضي واحدا من أسوأ شهور الاحتلال، ثم جاءت الفضائح والفظاعات التي كشف النقاب عنها في سجن أبو غريب وغيره من سجون الاحتلال، لكي تزيد الطين ِبلّة، وتفضح الاميركيين علي نحو شوه صورتهم في مختلف أنحاء العالم، وأربك الإدارة الاميركية وأحرجها بشكل لم تتوقعه .

كانت نتيجة ما جرى في العراق أن الإدارة الاميركية التي خاطبت الأوروبيين باستعلاء قبل عام، وتعاملت مع الأمم المتحدة بدرجة ملحوظة من الازدراء غيرت من سياستها بمعدل 180 درجة، حتى راحت تتودد للأوروبيين طالبة مشاركتهم في قوات التحالف، وتستغيث بالأمم المتحدة لكي تتدخل في العراق بقرار دولي، ولكي تتولى عملية نقل السلطة الى العراقيين في 30 يونيو . ليس ذلك فحسب، وإنما وجدنا المسؤولين الاميركيين، وعلى رأسهم الرئيس بوش يستنجدون بوسائل الإعلام لتطويق فضائح التعذيب وهتك أعراض العراقيين والعراقيات، فكان أن استدعى قناتين فضائيتين ناطقتين بالعربية لكي يتحدث إليهما مدافعا عن نفسه وإدارته، كما طلب إجراء حديث مع صحيفة «الأهرام» القاهرية لتوسيع نطاق حملة التجميل واستعادة الاعتبار بعد الفضيحة، وظل وزراؤه وأركان إدارته يهرولون إلى محطات الإذاعة والتلفزيون ويعتلون مختلف المنابر موضحين ومدافعين ومذكرين بالهدف النبيل الذي يقوم به الاميركيون في العراق .

وإذ يلاحظ المرء ذلك التحرك الدفاعي المضطرب والمحموم، فإنه يخيل إليه أن الإدارة الاميركية التي قسمت العالم إلى فسطاطين ـ بالضبط كما فعل أسامة بن لادن وجماعته ـ فتحدثت عن محور للشر وآخر للخير، وجدت نفسها فجأة واقفة في قلب محور الشر، فانتابتها حالة هياج عصبية، جعلتها تستميت في إثبات نبلها وحسن مقاصدها، كونها ما زالت ثابتة القدم في محور الخير !

لا عجب والأمر كذلك أن تدرك المسؤولة عن تحسين صورة الولايات المتحدة في الخارج ـ مارغريت تتوايلر ـ انها مكلفة بمهمة مستحيلة، الأمر الذي يضطرها إلى تقديم استقالتها من وظيفتها في وقت متزامن مع انكشاف فضائح سجن أبو غريب، ولم تكن هذه هي الاستقالة الأولى، وإنما سبقتها استقالة أخرى قدمتها أول سيدة عينت لتتولى تلك المسؤولية ـ تشارلوت بيرز ـ، الأمر الذي لا يمكن تجاهل مغزاه، المتمثل في الخطأ الفادح في التشخيص، ذلك أن درجة القبح التي تتسم بها السياسة الاميركية أصبحت تستعصي على أي تحسين أو تجميل .

ومن الواضح أن الإدارة الاميركية مصرة على تجاهل تلك الحقيقة، وأنها متمسكة بمسعى تغيير الصورة مع الإبقاء علي الأصل كما هو . يشهد بذلك الاتجاه إلى إطلاق قناة «الحرة» بعد تأسيس إذاعة «سوا »، وتخصيص عشرات الملايين من الدولارات لهذين المشروعين الدعائيين: الميزانية المطلوبة للحرة عام 2005 قدرت بحوالي 43 مليون دولار .

التوقيت حرج للغاية بالنسبة للإدارة الاميركية، حيث يتعذر التراجع عن أي سياسة، حتى وإن كان ذلك من قبيل استعادة الرشد، في سنة الانتخابات الرئاسية، ان تظل صورة الرئيس في الداخل مقدمة على صورة اميركا في الخارج، ولذلك فإن تلك الإدارة تحاول بضراوة ان تحجب عن المواطن الاميركي حقائق الفشل الذي منيت به السياسة الاميركية في الخارج، تجلى ذلك في منع صور توابيت الجنود الاميركية المرسلة من العراق، ومحاصرة برنامج «نايت لاين» الذي يعده الاعلامي تيد كوبيل لمحطة «إيه بي سي »، عن الجنود الاميركيين الذين قتلوا في العراق، ووقف بث البرنامج في القنوات التابعة للمحطة، كما تجلى في الهجوم العصبي الشرس، الذي أصبح يتعرض له الاميركيون الذين ينتقدون السياسة الاميركية الخارجية، من جانب أبواق تحالف المتطرفين والمحافظين في البيت الأبيض، إذ أصبح أي صوت ناقد متهما في وظيفته ومشكوكا في ولائه بزعم انه يعرض حياة الجنود الاميركيين في الخارج للخطر !

لم يفاجئنا كثيرا ما تم الكشف عنه في سجن أبو غريب، أو غيره، فما حدث في أفغانستان تجاوز التعذيب وهتك الأعراض، إلى الإبادة التي تعرض لها ألوف من عناصر القاعدة وأمثالهم من المدنيين الأبرياء، ثم إن السجل المخزي للولايات المتحدة في ابادتها للهنود الحمر، وفي القائها القنبلتين الذريتين علي هيروشيما ونغازاكي، رغم علم القيادة العسكرية الاميركية أن اليابان اتجهت إلى التسليم بالهزيمة، هذه الخلفية تجعلنا نستقبل ما حدث في العراق بقليل من الدهشة، لكن الذي كان مفاجئا حقا هو ذلك التخبط الاميركي والعصبية المفرطة، التي ما ظننا أنها يمكن أن تصبح سمة لسلوك الدولة الأقوى في التاريخ .

لقد كتبت ذات مرة عن الإجراءات الأمنية الاستثنائية والاعتداءات المتكررة على الحقوق والحريات المدنية التي أقدمت عليها الإدارة الاميركية في داخل اميركا ذاتها، وقلت وقتذاك إن الولايات المتحدة يبدو أنها تعد مسوغات انضمامها إلى منتدى العالم الثالث، وجاءت التطورات الأخيرة لكي تعزز هذا الظن وتؤيد النبوءة الساخرة، إنهم لا يريدون أن يتركوا لنا شيئا ننفرد به !