جريمة لا تتحمل مسؤوليتها الحضارة الغربية

TT

بمقدار الشجب لجريمة سجن «أبو غريب» لابد من رد الفضل إلى أهله والاعتراف بأنه لولا الإعلام الغربي والديموقراطية الغربية لبقي ما جرى في هذا السجن وفي السجون الأخرى، المنتشرة في العراق، سراً من الأسرار الدفينة، ولما كانت كل هذه الحملة العالمية التي أرغمت الرئيس الاميركي على الاعتذار وأجبرت وزير دفاعه رامسفيلد على الاعتراف بالذنب وتحمل المسؤولية.

لا يجوز ولا يصح تبرير هذه الجريمة البشعة ولكن وفي الوقت ذاته لا يجوز إصدار الأحكام جزافاً واعتبار أن الحضارة الغربية هي المسؤولة عن هذا الذي جرى والقول إن الديموقراطية في الولايات المتحدة مزيفة وغير حقيقية وتسجيل ما جرى في سجن

«أبو غريب» على ذمة الثقافة المسيحية.

بالتأكيد، ان جيش الاحـتلال يتحمل المسؤولية كاملة وان ضباطه، من تلك المجندة المعتوهة والمصابة بمرض السادية، وحتى اكبر جنرال وصولاً إلى وزير الدفاع رامسفيلد نفسه، مشاركون في هذه الجريمة النكراء لكن يجب ألا نوجه سهامنا إلى الإعلام الغربي الذي له الفضل الأول في كشف ما جرى ولا للديموقراطية الاميركية التي لولاها لما كانت هناك استجوابات ولا محاكمات ولا احتجاجات ولا كل حملة الشجب والاستنكار المتواصلة هذه.

«نُعيب زماننا والعيب فينا» ولعل ما يضعف حججنا ونحن نشجب جريمة «أبو غريب» وندينها أننا سكتنا أو سكت بعضنا على تحويل العراق كله، ذات يوم، إلى مجزرة بشرية بشعة، وإن صم الآذان وقطع ألسنة عباد الله في الشوارع وأمام عيون الناس لم يواجها بمثل هذه الغضبة المضرية التي لا نقاش في أنها ضرورية ولابد منها ويجب أن تكون.

الشجب والاستنكار ضروري لكن يجب أن لا ننجر إلى مطبِّ صراع الحضارات ونقع في شركه، فالغرب إذا فتحنا هذا الملف سيجد كثيراً، بما سيثيره ضدنا. فملفات بعض مراحل تاريخنا في عهد القرامطة والحشاشين وبعد ذلك وقبل ذلك فيه من البشاعات والفظائع ما لا يمكن مقارنة بما جرى في «أبو غريب» به.

يجب ألا يأخذنا الحماس بعيدا،ً فالإعلام الغربي الذي تقف خلفه ديموقراطية نتمنى أن تصل إلى بلادنا وتنعم بها أجيالنا ذات يوم هو الذي كشف جريمة سجن «أبو غريب»، وهو الذي لاحق المتورطين بها بالصوت والصورة وهو الذي حشر جورج بوش في الزاوية الحرجة وألزمه بالاعتذار سبع مرات للشعب العراقي، وهذه هي أول مرة في تاريخ الولايات المتحدة يضطر فيها رئيس اميركي إلى الاعتذار كل هذه الاعتذارات خلال أقل من ساعة واحدة.

لولا أن هناك قيماً في هذا الغرب، الذي وجد المستمرون بالتوجد على نظام صدام حسين والبكاء والتحسر على عهده، فرصة لصب جام غضبهم عليه لبقيت هذه الجريمة طي الكتمان مثلها مثل كل الجرائم التي أُرتكبت وترتكب يومياً في زنازين «ثورية» بلا أبواب ولا نوافذ وبلا شهود ولا كاميرات ولا مسجلات.

ألم يفعل الارهابيون الذين ذبحوا الجزائر من الوريد إلى الوريد باسم الإسلام، والإسلام السمح العظيم منهم براء، أكثر مما فعلته تلك المجندة المعتوهة والمريضة بآلاف المرات.. ألم يغتصبوا النساء ويقطعوا أطراف الأطفال بالبلطات.. ألم يمثلوا بجثث المسلمين بفتوى من شاب أحمق، ملأته هلوسات «تورا بورا» بالحقد الاسود، أطلقوا عليه لقب «أمير الجماعة»... ؟!

ثم أليس تفجير أجساد الأطفال في الرياض وينبع والجوف والدار البيضاء ومدريد بالقنابل والسيارات المفخخة أكثر بشاعة مما فعلته تلك المجندة الاميركية في سجن «أبو غريب» المخضرم، الذي شاهد وشهد جرائم كثيرة على مدى أربعين عاماً وأكثر تستحق الإدانة بنفس مستوى وشدة إدانتنا لهذه الجريمة..؟!

وأيضاً أليس فتوى ذلك الشيخ العراقي المعتوه الذي دعا قبل أربعة أيام إلى سبي المجندات الاميركيات والاستمتاع بهن كغنائم حرب جريمة استهدفت الإسلام تستحق الشجب والاستنكار والإدانة ...؟!

هناك في الغرب، الذي وجد بعضنا فيما جرى في سجن «أبو غريب» فرصة لشتمه وإلصاق هذه الجريمة به وبحضارته وبديموقراطيته وأعلامه، أبو حمزة المصري وأبو قتادة.. وآباء «الشياطين الزرق»، وفيه من الذين آواهم الغرب بعد أن لجأوا إليه بحجة الهروب من الظلم في أوطانهم، من يطالب بتدميره ويعتبر تفجير القطارات بركابها الأبرياء كما جرى في مدريد وهدم الأبراج بمن فيها كما جرى في الحادي عشر من سبتمبر( أيلول ) جهاداً في سبيل إعلاء كلمته.

في يوم الجمعة الماضي شهد مسجد «فنسبري بارك» في بريطانيا، الذي حوله أبو حمزة المصري إلى قاعدة تعبوية للإرهاب الدولي كامتداد لقادة «تورا بورا» جرت مسرحية لو أنها جرت في أي دولة عربية او إسلامية لسالت الدماء وارتفعت حتى الركب ولحُسمت الامور بالحديد والنار وبالسجون والمعتقلات.

... المؤذن يلف كل رأسه ويغطي كل وجهه، باستثناء عينيه، بكوفية مرقطة، والشارع الذي يقع فيه هذا المسجد يمتلئ بأكوام من الأشرطة والنشرات والكتب، والدعوات إلى «الجهاد» و«الاستشهاد» تعلو وتتعالى على مسمع ومرأى الشرطة البريطانية وأبو حمزة المصري، الذي يعتمر عمامة «طالبان» ينطلق بخطبة نارية عنوانها «ثقافة الاميركان في تعذيب الإنسان».

...«اللهم عليك باليهود والنصارى ومن ناصرهم وعليك بالشيوعيين ومن شايعهم.. اللهم أدخلنا الجنة بغير حساب واحشرنا في ذمة الأبرار».. هذا جزء من خطبة ابو حمزة المصري يوم الجمعة الماضي.. وأين.. ؟ في جامع «فنسبري بارك» في شمال لندن وفي الغرب الذي تُثار الآن كل هذه العاصفة الهوجاء ضد حضارته وديموقراطيته وإعلامه.

لا خلاف على ان السياسة الاميركية في هذا العهد وفي العهود السابقة تنحاز انحيازاً جائراً وظالماً ضد القضايا العربية والإسلامية ولا شك في أن احتلال العراق، بغض النظر عن المقدمات والأوضاع السابقة التي استدرجت هذا الاحتلال استدراجا، مرفوض ويجب التعجيل بنهايته وإعادة السلطة للشعب العراقي.

ومرة أخرى لا خلاف على أن معاملة الأسرى العراقيين بكل هذه الوحشية وبكل هذا الامتهان للإنسانية جريمة تستحق الشجب والاستنكار، ولكن علينا أن نكون في غاية الحذر وألا ننجر وراء فرسان الجمل الثورية وأيتام صدام حسين ونظامه ونحول ما جرى إلى مواجهة مع الإعلام الغربي والحضارة الغربية.

هناك قضايا كثيرة لا تزال عالقة بين العرب من جهة والولايات المتحدة والغرب كله من جهة أخرى، وفي مقدمتها قضيتا فلسطين والعراق، ولهذا علينا أن نضبط ردود فعلنا وان نترك مساحات للحوار وللأخذ والعطاء وان لا نذهب بالشوط الى نهايته. فالعلاقات مع أميركا، التي تحتل العراق والتي في يدها معظم أوراق قضية الشرق الأوسط والتي لكل الدول العربية، كلها بدون استثناء، مصالح مشتركة معها، ليست ترفاً سياسياً بالإمكان التخلي وإنما ضرورة من ضرورات عالم اليوم ومعادلاته وموازين قواه.