هوامش «حزينة» على تقارير التنمية العربية

TT

اعطني عربياً مهزوماً، مأزوماً.. أصنع به مجد العرب القادم...!

من المحيط إلى الخليج، «أذلاّء مهانون» (رواية ديستويفسكي) هكذا يصفون أنفسهم. لكنهم لا يزالون يحملون سرّ التقدم ورسالة تمدين العالم!

سيد قطب يقول لهم: «إن قيادة الرجل الغربي للبشرية قد أوشكت على الزوال.. لا بد من قيادة للبشرية جديدة».

مطاع صفدي القومي يقول لهم: «لن ينبعث إبداع العرب إلا من خلال انبعاث إبداع العالم ثانية على صورة مشروعه الثقافي الرحماني..إذ لم يخرج العرب من جاهليتهم إلا وهم يُخرجون العالم حولهم من جاهليتهم».

محطمون؟ متخلفون؟ متقهقرون.. ربما؟ لكن لا شيء من هذا كله قد وصل إلى العظام والمفاصل. ولا تزال مجتمعاتنا «أفضل من مجتمعات أوروبا والغرب في نواح كثيرة». تنقصنا أشياء كثيرة نعم، لكن هم أيضاً فقدوا الشيء الكثير.. من كل شيء!

هل هُزمت الأنظمة؟ حتماً. هل اندحرت الأحزاب الحاكمة؟ بالتأكيد، أو هي في طريقها نحو ذاك.

هذا جزاؤها جميعاً، فآخر هذه الأمة لا ينهض إلا بما نهض به أولها. وما من عاقل يملك الدواء لعِلله ويطرق أبواب الجيران والأباعد.

أضعنا وقتاً ثميناً في اللعب والاضطهاد والتناحر والتخوين والمزايدة والتفكير. حطمنا المؤسسات الديمقراطية، نهبنا العام والخاص، سحلنا كل القادة وذوي الإرادة، وهتفنا لأي راية، لكننا لا نزال بانتظار الزعيم الملهم والبطل الذي يقودنا إلى النصر.

كل أحفاد قادة وأبطال مقاومة الاستعمار الانجليزي والفرنساوي والإيطالي، العرب والإيرانيون والهنود والأتراك، يحلمون اليوم بالهجرة إلى الشمال، ويتزاحمون على أبواب السفارات الأوروبية والأمريكية والكندية والأسترالية.. لعلّ وعسى! ماذا فعلت الحركات الوطنية وجبهات التحرير بهم، حتى صار الواحد منهم يهرب من وطنه كما يفرّ من الأجرب؟ كيف يحمل هؤلاء مشاعل الهدى للبشرية وهم يتراصّون على أسطح السفن، والبواخر المواخر، يحلمون بالشواطئ البعيدة، وتلاحقهم قوات خفر السواحل.. وأسماك القرش؟ الرحيل إلى العالم الجديد هو جواب بعض العرب على تحديات الهزيمة، العقول البشرية تهاجر إلى أوروبا وأمريكا، وكذلك كثير من الذين ليست لديهم عقول!

من لم يسعفه الحظ، يهاجر فكرياً وسياسياً إلى «العالم الآخر» كل ما يحتاج إليه بعض الكتيبات وبعض الأشرطة والكثير من الجمود والتعصب.. والغوص في الماضي التليد، كيف نخرج من هذه البئر ونرى النور؟

كل المنتديات الثقافية والندوات والعقول العربية المهاجرة والأوابد تتساءل عن مخرج أكيد وبرنامج نهضوي سديد، لكن هيهات، القومي يريد النهوض بعشرين دولة عربية ونيّف، والإسلامي بخمسين دولة وأمة تعدادها فوق المليار، والتقدمي بكل البشرية.

هذه أمة (كل) مفاهيمها، ولغتها، وتاريخها ثوابت ومقدسات وإذا قلت لها: «تحركت القافلة» رأيت كل حزب مصراً على حمل الكثير من هذه الأيقونات معه. هذه شعوب تحلم بالنهوض والتحديث، لكنها تخاف من دفع الثمن.

تقرأ تقارير الخبراء عن أحوالها وأوضاعها فتتحسس بعض ما بها من أدواء، لكن ترفض بعناد تناول الدواء. تطالع هذه التقارير قلقة مصدقة تارة، لكنها سرعان ما تعتبرها جلداً للذات.

خلف كل فكرة جديدة مؤامرة، ووراء كل اقتراح يد الموساد، وتحت كل برنامج أهداف ومصالح أجنبية قائمة الأصدقاء خالية تقريباً، وقائمة أعداء العرب والمسلمين زاخرة: الغرب، الصليبية، الماسونية، الشعوبية، الموساد والصهيونية، اليهود والهندوس، الباطنية، الوجودية، العدمية..الخ

هل نحن مهزومون.. أم مأزومون؟ أم الاثنان معاً؟ وإذا كنا مهزومين حضارياً، فلماذا لا نعترف بالهزيمة كي نبدأ العلاج؟ كيف نفسر للعالم الخارجي أن هذه المنطقة كانت منطلق العديد من حضارات البشرية الكبرى، واليوم هي بهذا الحال؟

كيف تكون هذه المنطقة هي الأقرب للغرب وللبلدان المتقدمة والأكثر احتكاكاً بها عبر آلاف السنين، والأقل نجاحاً اليوم في إقامة نموذج واحد لدولة حديثة نظامها ديمقراطي، واقتصادها حر حديث، ومجتمعها سعيد، وتعليمها عصري؟

كيف تموت ديموقراطياتنا ومشاريعنا الحداثية في المهد، وينتعش الفساد والاستبداد؟ لا الناصرية أنقذت مصر ولا البعثية أحيت العراق ولا الماركسية جددت اليمن، ولا «النظام الإسلامي» غيّر السودان! أريد مصرياً، مغربياً، سودانياً، أردنياً، خليجياً، عراقياً، لا يلوم الآخرين على ما جرى له وما حل به مهما بدت الإغراءات قوية.

أريد جمعاً من أبناء شعوب العالم العربي يعرف عمق هزيمته الحضارية وأفق فشله التنموي، ويدرك في الوقت نفسه أن الحل لا يكمن في التغيير العنيف الذي فشلنا فيه ودمر بلداننا، ولا في الهروب إلى الأحزاب الدينية التي لن تقدم الحل، بل بفهم مشاكلنا والاندماج في العصر بعدم الاعتماد على الدولة قدر المستطاع، بتحرير السياسة والاقتصاد والقيم الاجتماعية والثقافية من فيروس التوجهات الشمولية، وبالكثير من الخطوات الأخرى.

أريد عقولاً تدرس أحوالها دون أن تؤجّج الحقد والغضب على تسعة أعشار البشرية لمختلف الأسباب، أناساً لا تنتظر الوحدة العربية أو قهر الاستعمار وتحطيم المصالح الأمريكية والفرنسية.. كي تنطلق!

أريد فئة ممن تغوص في ذاتها، وتنخل تجاربها، وتسأل نفسها على الأقل، لماذا لم ننجح في عشرين دولة، ونجحت إسرائيل في أول تجربة؟!

*كاتب كويتي