أزمة بقاء أم بقاء أزمة؟!

TT

كنت قد تحدثت في المقال السابق عن الأزمات التي تعيش صراعها معظم الدول العربية، وافتراض استمرار الأوضاع السائدة لا ينفي أبداً احتمال التعرض لمزيد من التدهور، مما قد يترتب عليه زيادة في التبعية والتعثر في تحقيق معدلات معقولة من التنمية، وبالتالي السماح للقوى الخارجية بفرض هيمنتها على المنطقة بشكل أكبر مما هو حاصل، فما مدى نوعية الإجراءات والتدابير التي على الدول العربية اتخاذها كمعيار نسبي لتحديد مشاهد المستقبل العربي بحيث لا تكون صورة لإحباطات الحاضر!

إن حسن الأداء الاقتصادي في أي دولة يساعد على تثبيت شرعيتها ونظامها الحاكم، وخاصة إذا كان هذا الأداء مصحوباً بقدر واعٍ من العدالة التوزيعية وحسن إدارة الموارد المتاحة، مما قد يكون فيه تعويض للسلبيات الموجودة على الساحة، فالدول العربية النفطية تقع عليها مسؤولية التنويع في القاعدة الإنتاجية والاستفادة قدر الإمكان من الموارد المالية في زيادة كفاءة التشغيل والإنتاج، فلا تعيش تحت رحمة اعتمادها الريعي على سلعة واحدة معرضة لتقلبات السوق الدولية، ناهيك من الدول العربية الأقل حظاً في مواردها الطبيعية والتي عليها عبء أكبر، حيث أثبتت الأيام أنها دول لم تحسن من إدارة اقتصادها بالشكل الذي كان بإمكانه إبعادها عن شبح المديونية الخارجية ومأزق ضغوط الدول المانحة وصندوق النقد الدولي التي وقعت تحت ضروسهم.

وإذ جاء التركيز هنا على العامل الاقتصادي بالذات فلأن تآكل استقلالية القرار الاقتصادي معناه في المقابل تناقص استقلالية القرار السياسي الداخلي والإقليمي، وهي تحديات عادة ما تلقي بظلالها على الدولة من مصادر مختلفة، فبعضها قد يكون دوليا أو إقليميا، وبعضها قد يأتي على شكل تحد داخلي واسع، فحين تضغط دولة عظمى ونظامها الرأسمالي العالمي على النظام العربي الحاكم لاتخاذ إجراءات اقتصادية معينة، فإنها تضع هذه الدولة العربية في مواجهة لا تحسد عليها، ففي حالة الاستجابة فإن السخط الجماهيري واحتمال انتفاضة بعض القطاعات الشعبية يظل قائماً بتهديده، وفي حالة تأجيل المطلوب أو حتى التخفيف من شروطه، كتخفيض الفوائد على الديون أو إعادة جدولتها فإن الدولة العظمى ما تلبث أن تطالب بالثمن أياً كان، والذي سيؤدي في النهاية إلى التذمر العام، واستغلال الأطراف العربية والدولية له، وقد تضطر قيادة الدولة حينها إلى اتخاذ بعض القرارات البديلة التي لا تكون قد نالت نصيبها الكافي من الدراسة والتمحيص، مما قد يضيف إلى التحديات القائمة تداعيات أخرى أكثر منها سلبية، يضطر على إثرها أصحاب رؤوس الأموال الوطنية للهجرة بأموالهم إلى خارج البلاد، لكونهم من أكثر فئات المجتمع تحسساً لأي عجز تعيشه دولتهم.

وقد شهدت الأقطار العربية طوال السنين الماضية استنزافاً مستمراً ليس فقط لرؤوس الأموال، بل وللكفاءات الوطنية المتقدمة أيضاً، والتي غالباً ما يكون حجم التحديات ليس هو العامل الرئيسي في خروجها من أوطانها، بقدر ما هو الإحساس العالي بالغبن، وفي التعامل غير الذكي مع كفاءاتها. فإذا علمنا أن هذه الخسارة، التي عادة ما تكون لصالح البلاد الأجنبية، إنما تتضاعف مرة كل عشر سنوات، أدركنا أننا أمام مؤشر وخيم ينطوي على أن معايير الأداء والجزاء العربية ليست منطقية أو عقلانية، الأمر الذي يجب معالجته من قبل القيادة السياسية وأجهزتها العليا، فمن أدبيات التنمية السليمة محاربة الفساد بشتى أنواعه، فلا محسوبية أو تمييز عند تولي المناصب، ولا اعتبارات لقرابة غير مؤهلة، وإنما هي الكفاءة التي يجب أن تكون وحدها المحك، إذ لا يخل بأداء أجهزة الدولة إلا تدني أهلية من يتولون مسؤوليتها، وهو تراجع قد يطال جميع فئات المجتمع حتى يصل إلى مستوياته الوسطى ثم الدنيا، كآليات للاحتيال على القانون.

وفي مرحلة تالية، قد يتطور الأمر ليصل إلى هيبة الدولة ورموزها أمام مواطنيها، فيتناقص الشعور بالاحترام والخوف وقد يأخذ صورًا لمواجهات وصدامات لا تملك مكابح الفوضى، عدا عن الأطراف المستفيدة والمعروف استغلالها لهذه الظروف، ولا أرى فضاً لهذا الاشتباك غير تعميق الشعور بالانتماء الوطني، فمسألة الهوية من شأنها أن تخلق لدى الفرد نوعا من الولاء والاعتزاز بانتمائه إلى الكيان الكبير، وهو الوطن، ونظراً لكون المعادلة لا تستقيم إلا بشقيها الأساسيين فلا بد لها من فعالية الدولة في الترويج لهذا الانتماء والمناداة به، وهو دور محوري يحتاج إلى التطبيق العملي له، فلم تعد الشعارات التنظيرية تغري بتكريس هذه الهوية، فمن لا يملك حدا أدنى من تأمين اجتماعي، يكفل له حياة كريمة في وطنه، لا يكون قادراً لا هو ولا أبناؤه على الدفاع بحب عن هذا الوطن، فإشباع الحاجات الأساسية لمواطني البلد، وإشعارهم بالعدل في معاملتهم قد يوفر الكثير، وحتماً سيجنب الدولة والمجتمع خطر العدوان، الداخلي منه والخارجي.

والحديث عن الهوية والانتماء يقود إلى نوع آخر من التحديات ينبغي الالتفات له وتجنيد الإمكانات المادية والبشرية اللازمة لمواجهته، وهي تداعيات الاتصالات التقنية الثقافية التي من شأنها أن ترسخ التبعية للخارج، فشبكات الاتصالات والإرسال الفضائية الأجنبية أصبحت من دون جدال قادرة على اختراق حدود السيادة العربية بموادها الثقافية والإعلامية المبهرة، وإن استمر الوضع على حاله، وفي ظل غياب المشاريع الحضارية الهادفة، ونتيجة للحدود المفروضة على حرية الإبداع والتعبير فإن المواطن العربي والعقول العربية الصغيرة ستكون مهيأة دائماً لاستقبال هذا الزخم المقبل عليها من الفضاء وخاصة مع التقنية العالية في الإنتاج والإخراج، وهو نوع من التعويض عن هزال وتكرار ما تقدمه أجهزة الإعلام المحلية، فيكون التأثير البعيد المدى هو تحلل الثقافة العربية وتقبل الآخر بكل ما فيه، ولا ندري بأبنائنا إلا وقد نسوا عاداتهم وتأثروا بأنماط سلوكيات استهلاكية قد تكون غريبة علينا، ولكنها مع الوقت ستصبح مألوفة لديهم، فمسألة الفجوة التقنية بين العرب والعالم الغربي المتقدم علينا لا بد من تقليصها والصرف بسخاء على آليات تنافسها، وواقعنا العربي والإسلامي، بحضاراته وقضاياه المعاشة والمتوقعة، يحتاج إلى تبنٍ واقعي جاد وخلاق في فهمها وتوصيلها للمشاهد العربي بدرجة لا تقل في تطورها عما هو موجود لدى الغرب.

أمّا بالنسبة للتحدي الإثني فهو أحد المداخل السهلة لاختراق المجتمعات العربية، فالأجنبي الذي لا يزال يفرق بين مواطنيه على أساس من لون جلدتهم يأتي فيتحدث لنا عن العنصرية وتساوي مواطنينا في حقوقهم، فمن الملام في ذلك!

لقد رأينا أقطاراً في الوطن العربي يتنازعها التنوع الإثني ـ العرقي أو الديني أو الطائفي ـ من دون أن يلتفت إليها حكامها أو حتى يتعاطفوا مع مطالب أصحابها، وكم تصاعدت نزعات التمرد والانفصال بين أبناء هذه الأقليات وخاصة في وجود التشجيع الأجنبي لها، وكم تحول المواطنون من مظلة وطن واحد، إلى «نحن» و«هم» بكل الصفات السلبية التي يحملها هؤلاء الـ«هم»، حتى غدا الأمر من مجرد «تنوع» إلى «تناقض» عميق الجذور لا يمكن التوفيق والتعايش بسلام بين أطرافه، ولا أدري لمصلحة من يصب هذا التعنت بين أبناء وطن واحد وإن اختلفت أديانهم وطوائفهم غير تجزئة البلد وإشاعة قلاقله وتفتته مع الزمن!

معظم التحديات التي ذكرت، يمكن احتواؤها بوجود عاملين لا يستغني أحدهما عن الآخر، أولهما المشاركة السياسية المتكافئة على صعيد التكوينات الاجتماعية المختلفة، وأعني بها الطبقية والاثنية، وثانيهما حسن إدارة الدولة والمجتمع، فالمؤسسة الواحدة إن لم تحظَ بإدارة تمتلك كل مقومات القيادة قد تنهار وتعلن إفلاسها بالرغم من كفاءة موظفيها، وكذلك هي إدارة الدولة بكافة أجهزتها، بحيث ينبغي أن تتسع طاقاتها وبعد نظرها لاتخاذ الإجراءات الكفيلة باحتواء المواقف قبل أن تتطور ويصعب حلها، أمّا أن يتوقف التعامل مع المشاكل، إلى حين ظهورها، فهو إجراء من شأنه أن يحيلها إلى أزمات فيجعل المهمة أصعب والاستجابة أبطأ.

*كاتبة سعودية