فضيحة «أبو غريب» رسالة كراهية وصورة للفشل السياسي

TT

لو كان الرئيس الأميركي جورج بوش يعرف الكثير من الحقائق حول المنطقة والعراق لما استعجل مع فريقه تصديق المعلومات المضللة خصوصاً من بعض العراقيين، ولما انقاد لتنفيذ خيار الاجتياح العسكري قبل وضع مخطط الصفحة السياسية لما بعد سقوط صدام. وكاد نجاحه الاسطوري أن يدفعه إلى الدخول في تنفيذ بقية مخططات تصفية الأنظمة «المارقة» المتبقية في المنطقة وفق إنموذج «بغداد», وابتزاز بعضهم الآخر من «الأصدقاء التقليدين»، وفرض مشروع «اصلاح الشرق الأوسط» عليهم. لكن نقص المعلومات وقلة المعرفة الثقافية والاجتماعية بأحوال «العراق» وحاضنته الجيوسياسية، ونفاذ قوة وسائل الاتصال والاعلام التي كانت عاملاً في انجاح سيناريو «البنتاغون»، قد تحولت بسرعة مذهلة إلى قوة دفع عكسية وتدحرج هائلة لسياسة وأصحاب مخطط احتلال العراق، عبر الصور التي تسللت بأيدي الجنود الأميركان أنفسهم إلى شاشات التلفاز الأميركية، ومن ثمّ تفجرّ فضيحة معتقل «أبو غريب» السياسية والأخلاقية بحق المعتقلين العراقيين، والتي وضعت السياسة الأميركية ومشروعها في العراق على حافة الافلاس، وصدقية شعارات «الحرية والديمقراطية» في مأزق حرج وحالة معقدة، تتجاوز تداعياتها الداخلية مناخ التنافس الحزبي الانتخابي إلى قضية وطنية تتعلق بجوهر القيم الاخلاقية الأميركية، وإلى تداعيات معوّقة للاستراتيجية الأميركية بددت ما دُفع ويدفع من مبالغ من قبل الإدارة الحالية «لتحسين الصورة» في المنطقة والعراق بصورة خاصة، لبرامج إعلامية تجاوزت المائتي مليون دولار. بل إن هذه الفضيحة قدمت رسالة كراهية بين الأميركان وشعوب العالم، وأكدت بأن السياسة الأميركية، الحالية، هي التي زرعت «الإرهابيين» في العراق، وأطلقت أيديهم في المنطقة. وهي التي تشيع أساليبهم القذرة وتجدّد طاقاتهم. ويبدو أن محاولات هذه الإدارة تفتيت المشكلة وتكسير موجتها يتم بأساليب تعطي لحدّ اللحظة مردودات عكسية. وإن هناك تمسكاً بتلك السياسة من قبل وزير الدفاع دونالد رامسفيلد، الذي أكد مجدداً، بأن أساليب الاستجواب المنفذة داخل سجون العراق مقرّة من قبل وزارته، مثلما استفز مشاعر العراقيين في زيارته الاستعراضية لمعتقل «أبوغريب» في بغداد، وإشادته بالسجانين الأميركان، ومسرحية إطلاق سراح مائتي معتقل لا يشكلون أكثر من نسبة 2% من المعتقلين الذين يحتجز أكثر من 90% منهم من دون أسباب، بعد رفض رامسفيلد غلق ملف «الفضيحة» اعتبارياً، بتقديمه الاستقالة، وإصراره على الاستمرار في منصبه بدعم متجدد من الرئيس بوش، مما يؤكد على أن ما وقع ويقع من انتهاكات صارخة لحقوق الانسان في العراق، يعبر عن سياسة متصلة الحلقات من أعلى هرم السلطة السياسية مروراً بقياداتها وكوادرها المهنيين والمنفذين، وباشراف وتعليمات مباشرة من رجال المخابرات العسكرية.

وقد اعترفت المجندة «ليندا انغلاند، التي ظهرت في لقطة مصورة وهي تجرّ سجيناً عراقياً من رباط في عنقه، لشبكة «CBS»، بأن ضباطاً ذوي رتب عالية أمروها هي وزملاءها بذلك العمل المشين. وقالوا لهم «إن انتهاك حقوق العراقيين وإذلالهم يؤتي ثماره».

كما تشير تقارير قدمتها منظمة «هيومن رايتز» الأميركية الخاصة بحقوق الانسان للبنتاغون، خلال الشهور الماضية، وخصوصاً في مجزرة «الفلوجة» خلال شهر أبريل(نيسان) الماضي، إلى إهمال المسؤولين لمطالباتها في فتح التحقيق بانتهاكات حقوق الانسان, وعدم الأخذ بتوصياتها في اتباع المعايير الدولية وفق اتفاقيات جنيف في التعامل مع المعتقلين والأسرى. وعلى الرغم من بشاعة جريمة ذبح الأميركي «نك بيرغ» من قبل مجموعة شبكة القاعدة الإرهابية، وترافقها الغريب مع فضيحة «أبو غريب»، إلا أنها لم تقدم خدمة لتخفيف آثارها على مسؤولي إدارة بوش، بل تحولت إلى ارباكات بفتح ملفات سرّية جديدة تخص المسلسل الأمني لأحداث سبتمبر 2001.

وحيث فشلت محاولة تفتيت الفضيحة التاريخية لمعتقل «أبو غريب»، فإن حصرها داخل السجون والمعتقلات يقدم جزءاً من الصورة، فكل العراق أصبح ميداناً للدم والعنف وانتهاكات حقوق الانسان. حيث يتعرض العراقيون منذ التاسع من أبريل 2003 في بيوتهم، وفي الشوارع العامة، وعلى نقاط التفتيش والحواجز داخل المدن وخارجها، إلى عمليات القتل. وكذلك دهم المنازل وتغييب أصحابها أو قتلهم، وقتل الأطفال واغتصاب النساء داخل المعتقلات وخارجها كجزء من وسائل الضغط النفسي والاذلال، مما عرضهن إلى مشكلات العزل الاجتماعي والشعور بالعار.

يتعرض منطق «القوة» الذي ذهبت وفقه أميركا للعراق، إلى هجوم إنساني معاكس بعد فشل عملية النقد الذاتي العلنية المجتزأة. والأمثلة لا تحصى من داخل الولايات المتحدة، سواء من الزعماء وقادة الفكر والرأي المخلصين لمبادئ أميركا في الأخلاق والحرية، أو من قبل المناوئين الحزبيين..

الأمثلة لا تحصى، وعلى الصعيد الانساني: البابا قال «التعذيب يشعل فتيل الكراهية ضدّ الغرب». ووزير خارجيته أكد «التعذيب صفعة أكبر للولايات المتحدة من 11 سبتمبر، وهذه الصفعة لم يوجهها إرهابيون بل الأميركيون أنفسهم».

وإذا كانت فداحة ما يتعرض له العراقيون اليوم تلقى تعاطفاً إنسانياً، كضريبة يدفعونها مجدداً بعدما دفعوا استحقاقات هزائم صدام في حروبه خلال عقدين وممارساته القمعية، فإنه لمن المخجل أن تستكمل مليشيات بعض الأحزاب والقوى المحلية، المتمثلة في مجلس الحكم من دون مشروعية قانونية، دور ممارسات انتهاك حقوق الانسان، وقيامها بعمليات الاغتيالات السياسية وقتل الأبرياء أو اختطافهم. وحين يفتح هذا الملف بحرية ومن دون خوف، بعد حلول القانون والأمن، فسيكون أكثر بشاعة من الملف الأميركي، في وقت أثبت أعضاء المجلس المذكور شراكتهم الضمنية غير المباشرة، ومسؤوليتهم السياسية عن جرائم فضيحة «أبو غريب»، سواء في تغطية بعضهم لتلك الفضيحة قبل إعلانها، أو في صمت البعض الآخر، وهناك من حاول تبرير تلك الجرائم بمنطق المقارنة بجرائم صدام، مدعياً بأنها «فردية صغيرة قام بها بعض أفراد الجيش الأميركي، في حين إن الجيش العراقي فعل أكثر من ذلك»، ومقدماً دليلاً آخر على عدم مشروعية الغزو والاحتلال الذي تمّ بمسوغات تحرير العراقيين من الدكتاتورية، مفضلاً بصورة علنية مصالحه في الحفاظ على صلاته الشخصية بالمسؤولين الأميركان المتورطين بالفضيحة، على كرامة شعب العراق وحقوقه.

من جانب آخر يسجل موقف استقالة وزير حقوق الانسان السابق عبد الباسط تركي لصالحه، حيث أعلن أن الحاكم بريمر منعه من زيارة معتقل «أبو غريب»، وإهماله لمعلوماته، فيما يفخر الوزير الجديد بزيارته للمعتقل بعد الفضيحة، لكنه يقدم التبريرات للجريمة البشعة بحق العراقيين.

الحلول المجتزأة لإدارة بوش لا تغيّر من الواقع شيئاً مهماً. هناك انتهاكات تتطلب تحقيقاً وفق المعايير الدولية من قبل منظمات حقوق الانسان والعفو الدولية والصليب الأحمر، وأن تؤدي لجنة حقوق الانسان في الأمم المتحدة مسؤوليتها. ولا بدّ لمجس الأمن الدولي من إدانة الجريمة، قبل انشغاله في إصدار قرار نقل السلطة ناقصة السيادة لحكومة غير منتخبة في الثلاثين من يونيو(حزيران) المقبل، تصادق على تشريع بقاء الاحتلال في العراق. ويفرض عليها التنازل عن الملفات السيادية في الأمن والاقتصاد والثروات وإعمار العراق.

هذه الفضيحة التي هزّت الضمير العالمي ستحفر في ذاكرة الأجيال العراقية والانسانية بشاعة الاحتلال مهما تفننت قياداته السياسية بتوفير الأغطية الاعلامية، أو أدوات العلاقات العامة المحلية. وهي صورة لفشل أميركي في مرحلة خطيرة من تركيز مواقع الامبراطورية الأميركية.

* كاتب وسياسي عراقي مقيم في لندن