بول بريمر العراقي

TT

أخشى ما أخشاه أن يظن أحد أنني مع تعذيب الموقوفين العراقيين، أو مع تلك الحفنة من العسكريين الأمريكيين والبريطانيين الذين قامت ضد ممارساتهم المستهجنة كل هذه الضجة المنظمة والموقوتة، خصوصا في أوساط الكتاب والمحللين العرب ممن نعرف نحن العراقيين أكثر من غيرنا أن شهادة أغلبهم مجروحة الى حد كبير.

في البداية، أوضح أن قناعتي كبيرة بأن الزوبعة التي ثارت بسبب انتهاك حقوق الإنسان العراقي على أيدي بعض الأمريكيين هي مسألة داخلية أمريكية، لها علاقة مباشرة بحملة المكاسرة الدائرة بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري وباقي مجاميع الضغط الأخرى، التي تعلمنا أن آخر ما يشغلها هو العدل والإنسانية وحقوق البشر في بلاد الاخرين. وستخمد الزوبعة فجأة بعد ان يجني مخترعوها كل ثمارها حتى الثمالة، فلا نعود نقرأ ولا نسمع من يذرف دمعة واحدة على موت آلاف بل ملايين البشر في الشرق والغرب.

من منا لا يتذكر ما حدث لبوش في أزمة الأصوات القليلة التي أوشكت أن تعصف بحظوظه في الفوز بالرئاسة قبل أربع سنوات؟ ألم تكن الحملة ضده بحجم الضجة التي تثار ضده اليوم باسم الممارسات اللاإنسانية ضد السجناء العراقيين؟ ألا نتوقع أن تخمد فجأة ومن دون مبررات هذه النار الجديدة المثارة ضده باسم السجناء العراقيين؟ وكأن يدا واحدة رفعت أصابعها مرة واحدة عن مفاتيح البيانو ليرفع بعدها جميع العازفين الآخرين أصابعهم عن أدواتهم، من دون ان نفهم لماذا هبت العاصفة ولماذا سكتت وكيف؟

وليس خافيا أن القادة والزعماء الغربيين والشرقيين الذين استنكروا واستهجنوا العدوان اللاإنساني على كرامة العراقيين، يردون لبوش سهاما سابقة عديدة غرزها في قلوبهم حين انفرد بغزو العراق، وحين أراد أن يجعل منه مزرعة أمريكية مغلقة بوجه شركائه الآخرين. واغلب الظن أن عيون أولئك الزعماء على عقود إعادة اعمار العراق وعلى صفقات أخرى يريدونها من بوش، وهو يكابر ويرفض التسليم بها لهم. وغدا، وفجأة أيضا، سيسكت هؤلاء الزعماء عن العراقيين وحقوقهم مثلما سكتوا على ذبح الالآف منهم بالأمس على يد صدام حسين.

وكل ما يعنيني هنا هو الزعماء والكتاب العرب الذين نزلوا الى الساحة بحماس عجيب، يولولون وينادون بالويل والثبور على من (سب) العنب الأسود العراقي وانتهك حرمات العراقيين وتطاول على كرامتهم.

فكم من واحد من هؤلاء الذين أدلوا بدلوهم في هذه المسألة الشائكة دقق بعناية وبضمير صاح ونقي، في صور السجناء المزعومين الذين قيل إنهم تعرضوا للتعذيب والإهانة في سجن ابوغريب وغيره من السجون التي تشرف عليها قوات التحالف وتأكد من هوياتهم؟ هل كلهم عراقيون فعلا وليس بينهم (غرباء) ذوو بشرة بيضاء غير عراقية لفقت صورهم لتعزيز الحملة وتوسيعها وجعلها أكثر فاعلية ؟

وكم منهم أقر بأن حفنة فقط منحرفة من العسكريين الأمريكيين والبريطانيين هي التي ارتكبت الانتهاكات، ثم دعا بسبب ذلك الى تقديم أكاليل الزهور لباقي المائة والثلاثين ألف أمريكي الموجودين في العراق على المعاملة العادلة والرحيمة التي عاملوا بها آلاف الموقوفين الآخرين معاملة نزلاء فنادق الدرجة الأولى؟ وهل سمع الكتاب والمحللون (العرب) بأن المئات والآلاف من أتباع الديكتاتور المطرود يهربون الى معتقلات الأمريكيين خوفا من الوقوع بأيدي العراقيين؟

إن لأغلبهم ثارات متراكمة يريد أخذها من أمريكا في العراق، فمنهم من يريد دم شارون فيمسك برقبة بوش في العراق، ومنهم من يطلب رأس بوش وحده. والفريق الثالث لا يرى في أمريكا كلها إلا شرا كاملا، فهو لذلك يريد أن يشرب من دم أي أمريكي حتى لو قتل في سبيل ذلك مئات الابرياء.

وبين هذا وذاك ضاعت العدالة، حتى أصبح من يجرح اصبعا أمريكيا في العراق بطلا مجيدا ومجاهدا مباركا، حتى لو كانت يداه تقطران دما بريئا من دماء أشقائه في العروبة والإسلام.

كنا سنصدق نبل السياسيين والكتاب والمحللين العرب الذين يصرخون اليوم ضد انتهاك حقوق الإنسان في العراق، لو كانوا قد وقفوا ولو قليلا مع شعبنا العراقي بالأمس، ليس فقط ضد (حفنة) منحرفة من ضباط مخابرات صدام حسين أو قوات أمنه الخاص، بل ضد نظام بأكمله تجاوز كل الحدود في إرهابه وعبثه بحقوق الإنسان العراقي، فقطع الألسن والأنوف والآذان، وغيب المخطوفين، وحرم الأسر العديدة حتى من مجرد السؤال عن أبنائها، وهجر الملايين، ودفن المئات منهم في مقابر جماعية، وعاقب المياه والنخيل والهواء. إن هؤلاء الأشقاء ينسون أن ذاكرتنا ما زالت حية وقادرة على الاستذكار.

كنا سنستمع اليهم اليوم باحترام لو أنهم لا يباركون علنا حملات القتل والتفجير والحرق الجارية اليوم في العراق، والتي حرمت شقيقهم العراقي من أبسط حقوقه في العيش الآمن. ولو سمعناهم مرة واحدة يعلنون غيرتهم على أطفال العراق ونسائه ويشجبون العصابات المخربة التي تفجر مدارس الأطفال وأنابيب الغاز والنفط ومحطات الكهرباء ومراكز الشرطة والمستوصفات والمستشفيات ومقار المنظمات الإنسانية باسم المقاومة الوطنية والقومية والدين.

كنا سنصفق لهم لو أنهم توقفوا عن شن حملات التفرقة الطائفية والعنصرية، ولم يصروا على تشجيع الانقسام العرقي والطائفي في العراق وهم يحريضون صباحا ومساء طائفة عراقية على أخرى ومدينة على اخرى وأخا على أخيه. أليس لهذا الحقد الأعمى على العراق ومستقبله من نهاية ؟

قريبا سيرحل بول بريمر الأمريكي، فماذا لو أخذ مكانه (بول بريمر) عراقي، عربي مسلم، يتشدق في العلن بالحرية والكرامة والديمقراطية وحقوق الإنسان، ويطلق في السر جلاوزته في كل مكان، يتلقفون المذنب والبرئ، ويملأون سجونه بآلاف الرجال والنساء ،الكبار والصغار، ويفعلون فيهم ما يفعله زملاؤه من القادة العرب برعاياهم من تعذيب وتدمير وترويع ، من دون أن يسمح لمندوب صليب أو هلال أخضر أو أحمر ولا لأي صحفي بالتجرؤ وطلب التحقق من أحوال السجناء والموقوفين. ومؤكد أن أغلب الشاجبين والساخطين اليوم سيسكت عن جميع ما يرتكبه أتباعه من انتهاكات انسانية، مهما كانت خطيرة، بحجة أن الشرعية الدولية و(السيادة الوطنية) لا تبيحان التدخل في الشؤون الداخلية للدول؟ ولاعتبر الجميع مخالفاته دفاعا مشروعا عن النفس، فقط إذا تعلم كيف ينثر (كيوبونات النفط) على رؤساء تحرير صحف وزعماء وقادة وأبناء رؤساء وزارات ورؤساء جمهورية، وكيف يشتري شركات كبرى وحكومات في الغرب والشرق على حد سواء.

لو كنت مكان بريمر اليوم لنفضت يدي من هذه المصيدة، ولأمرت على الفور بسحب جميع العسكريين الأمريكيين من سجون العراق ومعتقلاته، وتركت للعراقيين وحدهم مسؤولية التفاهم مع أبناء جلدتهم، سواء كانوا من أيتام الديكتاتور المطرود أو من أفراد عصابات التخريب، المصنوعة محليا أو المستوردة. فهم أقدر على رسم حدود الرحمة التي يستحقها قتلة الأطفال وسراق الأمن ومصاصو دماء الوطن الجريح.

* إعلامي عراقي ـ بغداد