فضيحة «التعذيب» في بغداد تنتهي بمعاقبة دمشق

TT

يستطيع الأقوياء مواصلة ارتكاب الأخطاء لفترة أطول من سواهم، وبخاصة حين يعرفون أن لا وجود لأحد يحاسبهم. ولكن مواصلة الأخطاء لا تستطيع أن تبلور نهجا سياسيا، وغالبا ما تقود إلى الإسراع في إعلان الفشل، الفشل الذي يأتي هنا متجاورا مع الغضب. وقد شهدت منطقتنا في الأسبوعين الماضيين حالتي غضب تعبران عن الفشل، الأولى أميركية والثانية إسرائيلية، الأولى في بغداد والثانية في غزة.

من بغداد، ومن سجن أبوغريب، انطلقت مجموعة من الصور، التقطها جنود ساديون، هزت الامبراطورية الأميركية على مستوى الداخل وعلى مستوى العالم. في الداخل وقف المواطن الأميركي مشدوها أمام ما تفعله حكومته في العراق، ووقف حائرا أمام التناقض الهائل بين ما يقال له عن أهداف سامية ذهب الجنود الأميركيون إلى العراق لتحقيقها، وبين ما يشاهده بعينه من انحطاط في التصرف يصدر عن الجهة الأعلى صوتا في الحديث عن القيم. وتعرض «المثال» الأميركي إلى هزة كبيرة، وكاد هذا «المثال» أن يسقط على الأرض كما سقط تمثال صدام حسين معلنا انتهاء عهد وبداية عهد. واحتاج الأمر إلى سلسلة من عمليات التساند والتبرئة. الرئيس يسند وزير الدفاع، ووزير الدفاع يسند رئيس الأركان، ورئيس الأركان يسند قادة الميدان، وعند قادة الميدان تنقطع السلسلة، ويقوم هؤلاء بالتخلي عن جنودهم المنفذين للتعذيب، ويضطر هؤلاء للقول علنا أمام المحاكم إنهم نفذوا الأوامر التي صدرت إليهم من القيادات. وهكذا... تنهار من جديد سلسلة التساند التي تم بناؤها بإحكام.

لقد حرص الرؤساء الكبار، ومن خلال عملية التساند التي توافقوا عليها، أن يظهروا الأمر على أنه بعيد كل البعد عن القيم والأوامر والهيئات القيادية، ليصبح بالتالي مجرد أخطاء ارتكبها أفراد. لقد تعرض نظام القيم إلى هزة كبيرة، ولذلك كان لا بد من الدفاع بقوة عن نظام القيم هذا، والا فإن أمورا كثيرة أخرى ستنهار، مع أن واقع الحال يشير إلى أن نظام القيم نفسه هو الذي تعرض للمساءلة في جلسات مجلس الشيوخ، وفي بيانات الصليب الأحمر الدولي، وفي مواقف الاستنكار التي عبرت عنها منظمات حقوق الإنسان. وتأكد ذلك كله حين انكشفت الحقيقة القائلة إن عمليات التعذيب معلومة لدى وزارة الدفاع الأميركية منذ خمسة أشهر، وتمت مواصلتها بالرغم من ذلك. وكذلك حين تكشفت الحقيقة القائلة إن عمليات التعذيب هي عمليات شاملة (حلحلة المعتقل كما شرح الجنرال مايرز للكونغرس) تمتد من العراق إلى أفغانستان إلى غوانتنامو، وهي سياسة عامة يمارسها الجيش بصفة رسمية تحت اسم خادع هو (خطة التحقيق). والجديد في الأمر فقط هو انكشاف الأمر بالصور الثابتة والمتحركة في سجن أبوغريب. هنا.... بدأ الغضب يتحرك، وتجمع الغضب متهيئا للانفجار، ثم وقع الانفجار المنتظر، وكانت المفاجأة أنه وقع باتجاه دمشق. لم يقع باتجاه سجن أبوغريب، ولم يقع باتجاه التعذيب، ولم يقع باتجاه خطة (الحلحلة) التي تبيح التعذيب، وقع باتجاه بلد عربي آخر.

إن الإدارة الأميركية بعد فشلها المتواتر في العراق، تفتح معركة جديدة ضد عاصمة عربية، من أجل تحويل الأنظار فقط عما يجري في العاصمة العراقية. إنها تسعى إلى حل مشكلة بإيجاد مشكلة أخرى ينشغل بها الناس. إنها إذا تعالج المشاكل إعلاميا ولا تعالجها ميدانيا أو سياسيا، فالمشكلة المغلقة، المشكلة التي لا يفضحها الإعلام، هي مشكلة محلولة، مشكلة يمكن التعايش معها، ومن هنا ضرورة إيجاد ميدان جديد لعمل الإعلام، وليكن هذه المرة باتجاه دمشق. وهكذا تعالج أزمة العلاقات الأميركية مع العرب بتوسيع نطاق هذه الأزمة، وتعالج مشكلة التعذيب في العراق بنقل الأضواء الإعلامية ليتم تسليطها على مشكلة أخرى.

ولا نستطيع هنا إلا أن نلاحظ، أن توقيت إعلان العقوبات ضد دمشق، قد جاء مترافقا مع تحسن العلاقات الفلسطينية ـ السورية، بعد سنوات طويلة من القطيعة، وهو أمر ترى فيه الإدارة الأميركية تحديا لها، فبينما تعمل هي علانية على الإطاحة بالقيادة الفلسطينية من أجل فرض قيادة بديلة مطواعة تقبل المخططات الإسرائيلية، تأتي دمشق، وبشكل مفاجئ، لتصبح عنصر دعم جديد لهذه القيادة، وهو أمر تستحق دمشق أن تعاقب عليه، لأن الإدارة الأميركية لا تتطلع إلى ضرورة تغيير سياسة النظام السوري فقط، بل هي تتطلع إلى إعادة صياغة الدور الإقليمي لسوريا، بحيث يخرج من جلده، ليدخل في جلد المصالح الأميركية والدفاع عنها. إن الإدارة الأميركية لا يعجبها أن يتبادل الفلسطينيون والسوريون الدعم والمساندة، ولا يعجبها دور سوريا في لبنان، ولا يعجبها وزن سوريا في العراق، ولا تعجبها مواقف سوريا في مناقشات القمة العربية، وهي تمارس الضغط على دمشق إما لإلغاء هذه الأدوار كلها، أو لتحويل هذه الأدوار نحو طاحونة الإدارة الأميركية. وكلا الموقفين ترفضهما سوريا، وترى في رفضهما تعبيرا عن نفسها، وعن طبيعتها، وليس مجرد مواقف معارضة لأميركا.

ولا يختلف منظر التعذيب الأميركي حين ينتقل من بغداد إلى دمشق، عن منظر الجيش الإسرائيلي وهو يجتاح ويدمر حي الزيتون في غزة. إنه الجيش المحتل.. القوي.. القادر. الجيش الذي ينكل بالفلسطينيين يوميا، فيقتلهم.. ويغتالهم.. ويدمر بيوتهم.. ويهدم مزارعهم.. ولا يستطيع أحد أن يوقفه ويردعه. إن عمليات القوة الوحشية التي يمارسها الجيش الإسرائيلي يوميا، هي النسخة المعدلة والمكبرة عن عمليات التعذيب التي يمارسها الجيش الأميركي في سجن أبوغريب، وهي لا تحظى بأي نقد أميركي، وإنما تحاط بالرعاية والعناية باعتبارها عمليات دفاع مشروعة تمارسها الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط. ولكن فجأة يقع المحظور، وتأتي الضربة من حيث لا يتوقع أحد، وإذ بهذا الفلسطيني (الذي لا وجود له) يستطيع ضرب دبابة إسرائيلية وقتل من فيها من الضباط والجنود. وإذ بهذا الفلسطيني (الذي لا وجود له) يعلن بأنه يحتفظ بأشلاء القتلة، ويجبر الجيش الإسرائيلي المحتل والقوي والقادر، على أن يتفاوض مع (الذين لا وجود لهم) لكي يحصل على اشلاء جنوده. ويتم ذلك بعد أن يتعهد بالانسحاب من حيث هو. وما أن يتم انسحابه، حتى يقوم الفلسطيني (الذي لا وجود له) بتدمير دبابة أخرى في رفح. وهنا لا يجد الجيش المحتل والقوي والقادر من وسيلة للرد سوى الغضب، فتخرج طائراته لتقصف المدنيين في شوارعهم وبيوتهم، وينجلي القصف عن ما لا يقل عن عشرين قتيلا وعشرات الجرحى.

منذ اغتيال الشيخ أحمد ياسين والدكتور عبد العزيز الرنتيسي، انتظر الكثيرون عمليات استشهادية ترد على الاغتيالات، وحين لم تقع هذه العمليات كتب الإسرائيليون مقالات عن انحسار قوة الانتفاضة الفلسطينية، وتحدثوا عن فعالية جدار الفصل في توفير الأمن للإسرائيليين، ولكن مقاتلي الانتفاضة اجتهدوا ليكون الرد هذه المرة ضد الدبابات الإسرائيلية، وهو ما لم يتوقعه القادة الإسرائيليون، ولذلك جاءت الصدمة في إسرائيل كبيرة.

إن المجتمع الإسرائيلي لا يزال يعيش صدمة الاستفتاء داخل حزب الليكود، والذي صوت بالأغلبية ضد خطة شارون بالانسحاب من قطاع غزة، وها هو يواجه الآن صدمة جديدة تقول العكس تماما، وتؤكد أن ثمن البقاء في غزة غال جدا، وليس هناك من مخرج سوى الانسحاب على غرار الإنسحاب من جنوب لبنان، وهو استنتاج طبيعي يزيد من حدة الغضب الإسرائيلي. إن الصحافة الاسرائيلية تقول: غزة هي لبنان. وشارون نفسه يقول: الاحتلال سيىء لإسرائيل. والجمهور يصوت مؤيدا استمرار الحل السيئ. وهذا خليط مجنون، منبعه من داخل إسرائيل، ولكنه يفرز غضبا ينصب على رفح وحي الزيتون.