دمعة وابتسامة

TT

كانت مناسبة طريفة ان احظى بالاستماع الى فرقة النهرين للمقام العراقي تتحفنا في ديوان الكوفة بعزفها ومجموعتها في أغاني المقام والبستات الشعبية. ضمت هذه المجموعة منتخبات من المناطق المختلفة في العراق لفت نظري الى هذا التباين بين أهل الموصل في الشمال وأهل الوسط والجنوب، الصفة المميزة الأولى للغناء العراقي غلبة الحزن. حتى سكان الخليج لفتوا نظري اليها فسألوني لماذا كل هذا الحزن في اغانيكم يا ابناء العراق. الجواب طبعا واضح هو الحياة المأساوية التي عاشوها عبر القرون ونجدها ماثلة أمامنا الآن.

في احدى زياراتي لمنطقة العمارة حضرت حفلة اقامتها الشيخة ساعة . وهو اسم طريف واطرف منه ان نجد امرأة تترأس عشيرتها وتكون شيخة عليهم. وهذا درس لمن يعترضون على تولية المرأة. انطلق في هذه الحفلة أحد المغنين في اغنية حزينة تحولت الى نحيب حتى لم يطق المغني السيطرة على نفسه فانفجر بالبكاء والعويل. جروه خارج الخيمة وانهالوا عليه ضربا فقد كدر قلب الشيخة وضيوفها.

قدمت فرقة النهرين نماذج من هذا النحيب في أغان من داخل حسن، الذي يعتبر أشهر المطربين الفولكلوريين في هذا المجال. ولكن ولحسن الحظ، سبقت ذلك مجموعة ظريفة من اغاني الموصل، واذا بها تختلف كليا عن تراجيديات الجنوب. وجدتها حاشدة بروح الفكاهة والاشادات الجنسية الظريفة والانغام الخفيفة كما في اغنية كم يا ردلي :

كم يا ردلي! كم يا ردلي! سمرة قتلتيني

فتت على بابها عم تنقش الورد

راس ابرتها من ذهب وبرسم الهندي

ادعي لرب السما، ليلة غدا عندي

وافرش فراش الهنا، ومخدته زندي!

ثم يمضي المغني فيصف كيف يصعد بها الى الطابق العلوي وغرفة النوم ويقبل الخدين. والآن الى التحليل. اعتقد ان اساس الحزن في اغاني الجنوب يعود الى الفيضانات (طوفان نوح) التي كانت تجتاح المنطقة في موسم الحصاد فتقضي على الزرع والضرع وتضيع على الفلاح الكادح جهده لسنة وتتركه معدما بدون حتى كوخ يأوي اليه.

منطقة الموصل غير معرضة للفيضانات ولا الى حملات الغزو من البدو، وساعد الطقس البارد أهل الموصل على تخزين الطعام فطوروا أكلة الكبة التي يعود تاريخها الى الآشوريين. وفي هذه الامسية في ديوان الكوفة لمسنا هذا الفارق. فبينما لعن ابن الجنوب حظه من الحياة فغنى قائلا: بسيان (في القاذورات) اذب الروح واسحق عليها ، راح ابناء الموصل يتغنون بوفرة الطعام. سمعنا الكثير من الغزل بالعيون الكحيلة والشفاه الجميلة، ولكن أهل الموصل تغنوا بالسماق والأكل الدهني والكبة النية. وهذه أول مرة اسمع فيها مطربا يمزق نياط قلبه وحنجرته في التصبب بالسماق! مصلاوي!