التداوي بالعطور

TT

هناك هوجة، أو موضة، للتداوي بالأعشاب منذ سنوات، والآن بدأت تبرز على السطح موضة أخرى وهي التداوي بالعطور، وهذه الموضة الأخيرة لطيفة وأقبلها شخصياً لعلاج أي مرض يصيبني ـ مشترطاً ألاّ يكون عطر (الحبشوش)، الذي ينتشر على نطاق شعبي واسع في جنوب بلادنا ـ حيث أنني سبحان الله ما أن أشم رائحته حتى يصيبني ما يشبه (الهستيريا)، أو جنون البقر، أو حمى الوادي المتصدع، فأصبح بغمضة عين إنسانا آخر تماماً، ومن الممكن جداً أن أفضح نفسي، وأفضح غيري، وأمسح بالبلاط أكثر المشايخ رزانة ووقار. فالعطور حبّب الله البشَر بها، أو بمعنى أصح حبّب أنوفهم بها، ففاقد حاسة الشم لا يفرق بين رائحة الكلونيا ورائحة «وايتات» الصرف الصحي، فكلاهما عنده سيان. فمن يتعالج بالعطور ويشفى يكون في الواقع قد حقق مكسبين: العافية والرائحة الزكية، ومن لم يشف فهو على الأقل قد تلذذ بالرائحة، وعليه أن يملأ أنفه ورئتيه منها إلى أن (يسدحونه) في قبره غير مأسوف عليه، ذلك القبر الذي سوف تعبق في أرجائه الروائح الزكية، هذا قبل أن تتفسخ جثته فتقضى عليها.

والتداوي بالعطور عرفه الفراعنة قبل ما لا يقل عن 6000 سنة، وكذلك أهل الصين ومن بعدهم أهل الهند، وأبو الطب (ابقراط) عالج بها، ويقال: إنه عندما اجتاح الطاعون أثينا القديمة أمر (البروفيسور) ابقراط بحرق الورود والنباتات العطرية على زوايا الشوارع، لمنع الوباء من الانتشار، ومع ذلك انتشر الوباء، ومات مئات الآلاف من الناس. لكن ومثلما هو مؤكد، فإن بعض الزيوت العطرية معقمة تقتل الجراثيم والفطريات والفيروسات، كما أن بعضها مهدئ نفسي، وبعضها منوم، وبعضها يستنهض المناعة، وبعضها محفز لا مقوي للباءة ـ بمعنى أن المرأة حسنة الرائحة، تكون مقبولة، ومرغوبة، ومرحب بها، بعكس الزوجة التي تأتي من المطبخ رأساً، ولا يعبق من بين أردانها سوى رائحة البصل والثوم مع كثير من العرق وخلافه، وعجبت من زوج تأتي إليه زوجته وهي على تلك الحالة الثانية التي ذكرتها، عجبت منه كيف لا يخرج من البيت شاهراً سيفه، أو مطلقاً سيقانه للريح يطلب (الفكاك)، أو الشهادة.

ومن أصغر القرى التي زرتها قبل عدّة سنوات في جنوب فرنسا، قرية (غراس)، التي تشتهر بصناعة العطور، وقد سبق لي أن كتبت عنها، وسأظل أكتب عنها طالما أنه يقف في وسط وجهي أنف ينبض ويتحرك، هذه القرية تجولت بين معاملها، ومصانعها، وشاهدت ولمست كل أنواع الزهور والورود والنباتات التي يجمعونها لاستخراج أروع ما فيها، وكنت طوال الوقت منتشياً بدرجة لا تصدق، وأنا استمع لشرح الصبايا ـ المعقوصات الشعر ـ عن طبيعة عملهن، وكيف أنهن لا يحتجن أبداً إلى أي (ديودرنت)، لأن عرقهن مع الوقت تحول إلى ما يشبه (البيرقان) الذي لا يزكم الأنوف، وإنما يحسحس عليها بكل حنان.. وكن ـ الله يذكرهن بالخير ـ كلما اقتربن مني خطوة ابتعدت عنهن خطوتين، لا خوفاً منهن، وإنما خوفاً عليهن. والآن من أراد أن يقدم لي هدية، فليقدم لي عطراً ـ على شرط ـ أن يعيدني إلى صباي (المتكهرب).