عابرون في الزمن الطيب

TT

روى لي أحد الأصدقاء قصة موحية حدثت له في أحد المساءات المثقلة في مدينة جدة على الساحل الغربي للسعودية، كان عائدا بسيارته، ولمح شابا يطلب المساعدة في التوصيل، أوقف سيارته وأقلّه لوجهته، كان صاحبنا ساهما مع الموسيقى الناعمة المنبعثة من المسجلة، فجأة طلب منه الشاب بلطف وتصميم أن يخمد الموسيقى، سأله: لماذا؟ قال لأنها محرمة. فقال له: من أين أتيت بذلك؟ قال من الأدلة الشرعية، ثم همّ بان يتلو الآية القرآنية التي ظن أنها تساعده على إثبات وجهة نظره، لكنه لم يتذكر نصها، فبادره صاحبي بالقول تقصد آية سورة العنكبوت التي تقول «ومن الناس من يشتري لَهو الْحديث لِيضلَّ عن سبِيل اللَّه بغير علمٍ ويتَّخذها هزوا أولَئك لَهم عذابٌ مهِين»، فقال نعم هي ما قصدت، فقال له صاحبي: ما رأيك بمن يتعمّد الصدّ والإضلال عن سبيل الله فقط، من دون أن يغنّي أو يستمع للغناء؟ أليس ذلك بحد ذاته هو المُحذّر منه؟ فوافقه بتردد، قال: إذن هذا هو مصبّ المنع ومورد الذم، فأجابه الشاب ولكن الصحابي فلان قال انه الغناء، قال له ولكن لم يوافقه كل الصحابة، وهذا عبد الله بن جعفر الطيار، صحابي ابن صحابي، كان مشهورا بحب الغناء وكانت له جوارٍ يتقنّ فن الغناء.

ثم التفت له وقال: لست ألزمك بقبول رأيي في الغناء والموسيقى، فانا اعرف أن هناك فقهاء يحرمونه مطلقا، ولكن لا يجوز لك أن تلزمني بقولك وتفرض عليّ رأيك، لأن هناك طرقا أخرى للفهم وآراء تختلف عن ما حفظتَه أنت وعرفته، وقال بها فقهاء أيضا.

الجدل استمر بينهما، وكان جدلا مباغتا للشاب، لأنه توقع الاستماع والاستجابة من دون نقاش ولا محاججة، لذلك فقد ارتبك كثيرا وطلب أن ينزله في مكان ما في الطريق قبل أن يصل لوجهته، ومن يدري ربما ما زال يفكر في هذا الحديث.

هذا الشاب هو ابن حالة جديدة طرأت على المجتمع السعودي، ومعه كثير من المجتمعات الخليجية، بل والعربية أيضا; حالة «الصحوة» الإسلامية أو الانبعاث الإسلامي السياسي بشكل عام على أنقاض الإسلام التقليدي الذي تلقى ضربات متتالية على يد «الإحيائيين» كما يسميهم الدكتور رضوان السيد، وهم الذين اتخذوا من الإسلام ايديولوجيا نضالية شمولية حديثة، لا ديناً ُورثَ منذ مئات السنين.

هذا الانبعاث الحديث ازدهر عقب انحسار المد القومي واليساري، هذا الانحسار الذي ُيؤشر له بهزيمة 67 كدلالة زمنية رمزية من دون أن يعني ذلك انعدام المقدمات قبل هذه النقطة أو انبثاق النتائج التالية بدون مقدماتها السابقة.

ولذلك فهذا الانبعاث مفهومٌ وُمفسّرٌ من الناحية التاريخية وله أسبابه المادية المضيئة، ويجب فهمه من هذا المنظور أساساً، لا عن طريق التقديم اللاتاريخي، الذي يحمل طابعا احتفاليا تبشيريا ونفَساً سماويا استثنائيا، فالأمر ليس كذلك لأننا إزاء تحوّلٍ «ضمن» التاريخ، يخضع لشروطه، لا هداية هبطت من خارجه متمردة على كل القوانين التي تسيّر حركة هذا التاريخ، وإلا فلو كان هذا الخطاب وتلك السلوكيات التي يبشر بها الإسلاميون «الجدد» هي من سمة الإسلام بما هو إسلام، فلماذا ُنظر إليها أول ما ترعرع هذا الجديد في السعودية بعين الريبة والتوجس، من أناسٍ لم يكونوا إلا مسلمين بسطاء في تصورهم لوظيفة الدين في الحياة، أقوياء في صدق انتمائهم إليه؟!

لقد كانت التبدلات التي طرأت على طبيعة الملابس للرجال والنساء على السواء، محل غرابة واندهاش، لبس القفازات النسائية مثلا، هذه التغيرات كانت أمرا غير مألوف لطبيعة الزيّ المعتاد، غطاء الوجه نفسه كان أمرا جديدا وغير معتاد بالنسبة للمرأة، في بعض المناطق، ويذكر بعض الناس، أن الزوجة كانت ترحب بشقيق زوجها وتتعاطى معه كأخ، من دون أن تغطي وجهها، تتعامل معه بكل حشمة ونقاء وعفوية، حتى تمت مفاجأتهم ومفاجأتهن بأن كل ذلك انحراف وإثم وجهالة بالدين.

كان الرجل السعودي التقليدي لا يترك الصلاة في المسجد والصيام في رمضان، وبقية العبادات كانت ممارسات طبيعية وتعلقا مباشرا بالرب، مثل التنفس وفلاحة الأرض أو رعي الماشية، وفي نفس الوقت كان ينشد القصائد ويطرب للمواويل وقصائد الغزل. كانوا مسلمين صادقين ولكنهم لا يجعلون من الدين حاجزا عن مباهجهم الصغيرة، على كل حال، لم يكونوا مضطرين للنفاق.

كانت قصائد محسن الهزاني ومحمد القاضي وبن لعبون والسديري، تجري على كل لسان في منطقة نجد، بكل ما فيها من غزل وقصص عاطفية، يسمرون عليها في ليالي الشتاء على صوت طقطقات الجمر بعد انصرافهم من صلاة العشاء، لم يكونوا محتقنين أو ُمعبأين ضد الحياة ومشغولين بوجوب إعادة الناس إلى «المجتمع المسلم المثالي» لأنهم لم يكونوا يشعرون بفقدانه أصلا، لكن، ومع توالي الضربات وبساطة الحياة الفكرية، إضافة لوجود تعقيدات سياسية عابرة، انهار سور البراءة والعفوية تحت معاول التجييش الايديولوجي، وتحول المجتمع، كل المجتمع، إلى هدف للهداية والردّ إلى الحق...!

«مزنة» جدة صديقي، تلك العجوز الطيبة، كانت تنظر بتوجس لهذا الهيجان الدعوي، وكانت تلحّ على أن ذلك دليل شك لا ثقة! وكانت ترفض التخلي عن صورة الإسلام كما فهمته، ولذلك فقد كانت كثيرة الملازمة لسجادتها ومُصلاّها، وهي التي لقّنت حفيدها قصائد الغزل وحفظته كثيرا من الأغاني الشعبية، كانت في لحظات الإنس، تستمع من الراديو العتيق لحفلات الست أم كلثوم وتهز رأسها استعذابا...

مزنة توفيت قبل سنوات ليست بالقريبة، ذات نهارٍ، بعدما أيقظت حفيدها الشاب لصلاة الجمعة ثم لزمت مصلاها، وأسلمت الروح وهي تؤدي الركعة الثانية من صلاة العصر، آخر كلمة نطقتها «ابتعدوا عني» ثم استقبلت القبلة وقالت: لا اله إلا الله محمد رسول الله، وودعت الحياة.

ولذلك فإنني حينما استمع للحديث عن حتمية الحل «الإسلامي» الذي ُيعنى به مقترحات بعض الإسلاميين المسيسين أو الصحويين بطبيعة الحال، والأوهام الأخرى، لا أقول إلا «الله يرحم مزنة»!

ليس صحيحا أن ما جرى على يد الإسلام السياسي كان هداية للناس إلى الحق، بل كان استثمارا للناس من اجل نصرة مقترحات أرباب هذه الايديولوجيا لقيادة الحياة وإدارة المجتمع.

لقد كان الناس مسلمين، قبل أن يوجد الكاسيت الإسلامي والفيديو الإسلامي والنشيد الإسلامي... وقبل أن يتحدث سيد قطب أو المودودي أو الغزالي أو البنا... ناهيك من الدعاة التلفزيونيين النجوم.

لقد اقبل الجمهور المكسور على هذه الظاهرة لاعتقاده بأنها ربما تخلّصه من وجع الهزيمة وألم التخلف، كما كان الحال، ذات يوم، مع قومية عبد الناصر وحلم الوحدة العربية من الخليج الثائر إلى المحيط الهادر، غير انه سرعان ما سيعرف، وقد عرف بعضه، أن لا مناص من العودة على الذات بالنقد، واستبعاد التعويل على أسباب خارج الموضوع، إما مؤامرات إمبريالية خارجية (الخطاب الناصري مثلا) أو التعويل على مقولات شعاراتية ضخمة تتكلم كثيرا ولا تقول شيئا(الإسلاميون ومقولة الحل الإسلامي).

ليست مشكلة الناس أنهم قليلو الديانة، فهم كانوا وما زالوا، يعرفون كيف يكونون مسلمين، مشكلتهم الكبرى أنهم لم يعرفوا بعد المحافظة على دنياهم التي يقبّحها العابرون الجدد في عقولهم..

لا خوف على الإسلام، بل على المسلمين... بعبارة أخرى: نريد أن نعرف الطريق للحياة الدنيا بعد أن عرفنا السبيل للحياة الأخرى. فقط لنصبح أكثر ثقة بأنفسنا.

[email protected]