من هنا عبروا

TT

فندق ريفي صغير اسمه (براون) عرض للبيع في الاسبوع الأخير من أبريل (نيسان) فارتفع سعره عشرات المرات لمجرد ان شاعر ويلز الكبير ديلان توماس أقام فيه فترة من الزمن ثم سكن قربه وواصل ارتياد حانته التي لا يميزها شيء عن غيرها سوى ان الشاعر جلس هناك وعاقر ندماءه فيها.

ومن اشترى ذلك الفندق لن يستطيع هدمه ليقيم ناطحة سحاب مكانه فهذه أمور تحصل عندنا فقط أما في الغرب فالابنية التاريخية والأمكنة التي يقيم فيها الشعراء والفنانون والعلماء يستحيل تغييرها بعد رحيلهم فهي تصبح بعدهم في قائمة محمية اسمها (listed) اي من النوع الذي يمنع احداث أي تبديل على ملامحه الداخلية أو الخارجية احتراما لتراث من عبروا به وللحفاظ عليه كما كان في ايامهم.

ولو كانت هذه القائمة موجودة في البلاد العربية لما تبدل مقهى الهافانا بدمشق الذي يضم التاريخ الثقافي كله لتلك المدينة العريقة ولما تحول مقهى ريش في القاهرة الى ما هو عليه الآن وكذلك مقهى تريانون في الاسكندرية الذي كان ايضا المقر الصيفي لنجيب محفوظ في الثغر البحري.

وفي الزاوية المقابلة لتريانون فندق اسمه سيسل كتب لورانس دأرييل في حانته كما يقال رباعية الاسكندرية وقد كانت تلك الحانة موجودة حين كنا طلاب دراسات عليا في تلك المدينة اواخر السبعينات فلما غبنا عنها بقرارات منع من المرحوم السادات بعد زيارته للقدس ورجعنا اليها بعد حقبة ونيف وجدنا الحانة قد اختفت وحل مكانها في تلك الزاوية الجميلة المواجهة لقلعة قايتباي مطعم عصري آخر ألسطة.

وقد أخبرني مقبلون من حلب السورية التي غبت عنها دهرا ان مقهى السلطان الذي كان مع القصر مجلسا دائما لادباء مدينة سيف الدولة والمتنبي قد اختفى ايضا وتحول الى بوتيك ملابس نسائية.

ولماذا نذهب بعيدا في هذه التفاصيل الجماعية وهناك منازل وفيلات شخصية لقمم أدبية وفنية وعلمية تم هدمها ومحو آثارها ومنها فيلا ام كلثوم وشقق كثيرة أقام فيها عبد الحليم حافظ الذي اسنطيع الزعم ان هذين الاسمين مع فيروز ـ أمد الله في عمرها ـ هم الذين شكلوا ثلاثة ارباع الوجدان العاطفي العربي المعاصر.

ولا اريد ان أسأل ماذا حدث للشقة التي احترق فيها جمال حمدان ذلك العقل الجبار الذي لم تنجب الأمة له مثيلا فاني أخشى الجواب قبل ان اسمعه وعلى الارجح فان مصيرها وهي شقة متواضعة لن يكون أفضل من بيت أم كلثوم.

ان امما لم تهتم بادبائها وفنانيها وعلمائها في حياتهم لن يشقيها ما يحصل لتركاتهم المتواضعة بعد مماتهم فالحفاظ على ارث هؤلاء موقف حضاري تتبارى به الامم ونحن ومع حديثنا الذي لا ينقطع عن التراث نعمل معاول الهدم من دون رحمة لا في المباني التي أقام فيها معاصرون بل احيانا في بعض الابنية التي ضمت ارثا عريقا وصمدت مئات الاعوام الى ان وصلت ملكيتها الى بعض الجشعين الذين لا تهمهم حضارة ولا ثقافة ولا تراث ولا فن.

وهؤلاء لا يلجمهم الا القانون لكن الأمر سيبدو مضحكا لو طالبنا بقوانين تحمي ارث الموتى وتنصفهم في بلاد ليس فيها قوانين تحمي حقوق الأحياء.

[email protected]