مشروع الإبراهيمي.. عراق ديمقراطي بعقال عربي وعباءة إسلامية

TT

لا أسف ولا دموع على القمة. سيظل العرب على ما هم عليه بقمة وبلا قمة. لعل الكبار الذين غابوا قد ملوا معنا، نحن العرب العاديين، اصدار البيانات التقليدية والقرارات غير العملية.

أكتب هذه الكلمات ومسرح القمة يوشك على أن يسدل الستار (الأحد). لكن أملك الجرأة لأقول سلفا إن أية مطالبة بانسحاب أميركي من العراق ستكون بمثابة (تسجيل موقف)، فعرب القمة يعرفون ضمنا أن الانسحاب سيغرق العراق بدم أكثر مما سفكه الاحتلال. أما الفلسطينيون الذين لا ينفكون عن مطالبة القمم بإنقاذ فلسطين، فهم يعرفون أيضا أن العالم جرد العرب من القوة الرادعة لإسرائيل. والعرب العاجزون غير راضين، في المقابل، عن عجز الفلسطينيين عن توحيد قيادتهم السياسية، وغير راضين عن خطف الانتحاريين للانتفاضة وعسكرتها.

أترك مسرح العبث، لأنتقل إلى مسرح شكسبيري مليء بضباب الغموض، أعني مسرح العراق. ثمة تحول كبير قد يبدد الضباب فجأة، ويحل عقدة الدراما الشكسبيرية، ونحن نقترب بسرعة من أول يوليو/تموز موعد قيام السلطة العراقية الجديدة.

واذا كان لا بد لكل مسرح من مُخرج، فالأغلب أن المبعوث الدولي الأخضر الابراهيمي مرشح ليلعب دورا بارزا في تحقيق هذا التحول الذي تبدو دلائل ومؤشرات كثيرة عليه. إدارة بوش تبدي اهتماما كبيرا بهذا الديبلوماسي الجزائري المحنك، على الرغم من النقد الذي وجهه إليها والى إسرائيل بخصوص الوضع الفلسطيني المؤلم. ويبدو انه تمكن من الحصول على موافقة أميركية أولية على المضي قدما في مشروعه الدولي في العراق.

الابراهيمي الصامت هذه الأيام لا يقر بأن هناك تحولا، ولم يقدم، بعد، تفاصيل عن المشروع الدولي. لكن إذا كان لي أن استخلص من ضباب الفوضى والبلبلة في العراق بعض ملامح المشروع، فأستطيع أن أقول إن الهدف هو العودة إلى التأكيد على هوية العراق العربية، في إطار عراق ديمقراطي ملتفع بعباءة إسلامية فضفاضة.

أمضي خطوة أخرى في الإيضاح، لأشير إلى احتمال اعتماد قوى عراقية عروبية الاتجاه قادرة على تجاوز عقدة الانتماء الطائفي إلى حد كبير. الابراهيمي يشير الى أن الحكومة العراقية المقبلة سوف تضم رجال التكنوقراط، لكن عمليا سوف يغلّب على هؤلاء ميلهم إلى النأي بالنظام العراقي الجديد عن الانتماءات الضيقة التي تهدد انسجامه وسلامه الاجتماعي ووحدته الترابية.

ليس مستبعدا أن يلجأ المشروع الدولي إلى مبدأ (الفرض بالإقناع) الذي اتبع بنجاح باهر في أفغانستان. فقد يجري فرض نظام يعتمد أساسا القوى المشار إليها مع دعم دولي وأميركي وعربي لها. وسوف تكون الديمقراطية اللامركزية هي البديل لنظام طائفي صارخ، أو لنظام استبدادي تجاهل في العهود السابقة مطالب الأغلبية والأقليات المحلية.

ويمكن إهالة عباءة إسلامية على هذا النظام، بحيث يكفل الاعتدال الديني سحب البساط من تحت أقدام قوى التطرف الاصولي التي صعدت إلى المسرح السياسي بعمائمها وخطابها الاهتياجي، ثم بسلاحها وميليشياتها.

لكن ما هي الدلائل والمؤشرات على بوادر هذا التحول الكبير؟

هناك الآن تراجع أميركي ملحوظ عن الرهان على عراق شيعي، بعدما أثبتت القوى الشيعية المختلفة، من دينية وسياسية، عدم اهليتها للحكم ولادارة عراق ديمقراطي مسالم وعادل بالنسبة لكل فئاته ومواطنيه. فلم يكن (تمرد) مقتدى الصدر على الأميركيين ضروريا، طالما أن طائفته كانت مرشحة للوصول إلى الحكم سلما عبر صندوق الاقتراع. ولم تثبت هيبة علي السيستاني والأئمة الكبار قدرتها على استيعاب وتطويق التمرد المسلح والمحرج لهم.

كذلك ارتكب أحمد الجلبي خطأ كبيرا عندما لم يهتم بتشكيل قاعدة شعبية له، وانصرف إلى زرع مساعديه في مفاصل الدولة المالية والاقتصادية. ويبدو أن إقامته صلات سرية مع إيران، بعدما رأى تدهور شعبية حلفائه الأميركيين، هي التي أوغرت صدر إدارة بوش عليه، لا سيما أن المعلومات (الاستخبارية) التي قدمها، في مقابل الدعم المالي لتنظيمه، كانت مضللة أو مبالغا فيها.

ودعم الجلبي خطأه بخطأ آخر عندما عمد إلى مهاجمة الابراهيمي شخصيا في نقطة قوته، وهي إيمانه بعروبته. وقضى الجلبي بذلك على كل أمل في مصالحة عربية معه، أو في دعم أميركي له في تحقيق طموحه بترئيسه على العراق. والأميركيون لا يغفرون له استدارته نحو إيران، للتعاون معها في إحباط المشروع الدولي، وهم يرون أجهزة مخابراتها تتغلغل في العراق، مع دفعها بعشرات ألوف الشيعة من أصل فارسي إلى العودة إليه، ثم مع شبهتهم في تسليحها وتمويلها (تمرد) الصدر، وتمرير المتسللين الانتحاريين.

غير أن النظام (الدولي) الذي يحاول الابراهيمي بناءه يحتاج إلى كادر أمني وعسكري يحميه، ويواصل محاولة إقرار الأمن والقانون ومطاردة المتسللين الانتحاريين وعناصر صدام المتعاونة معهم.* كان إسناد الأميركيين لقوى سنية أمنية مهمة التهدئة في الفلوجة ناجحا الى الآن. ويتولى قيادة هذه الفصائل ضباط سنة ذوو اتجاه قومي معتدل، وكانوا بشكل وآخر في عداد قوات صدام، من غير أن يكونوا محسوبين عليه، أو مشاركين في حملاته القمعية المروعة.

وهكذا، بدأ تعميم هذه التجربة باعتماد قيادات أمنية وعسكرية مشابهة في الجيش العراقي الجديد وأجهزة الشرطة والأمن. وسجلت العناصر النظيفة (المستعارة) من النظام السابق نجاحا في مهامها الأمنية الصعبة. وتبدي دول عربية وأوروبية (ألمانيا مثلا) اهتماما بتدريبها وتأهيلها.

لا شك أن إخضاع هذه القيادات الأمنية والعسكرية للسلطة المدنية في وزارتي الدفاع والداخلية كفيل بضبطها، وهو أفضل من الاستعانة بالضباط المتقاعدين الكبار من نجوم الحرب مع إيران، كما اقترح مسؤولون عرب على الأميركيين. فهؤلاء وهم البقية الباقية التي نجت من (استئصال) صدام لهم، يتمتعون بشعبية لا بأس بها لدى العراقيين، والاستعانة بهم في مناصب أمنية وعسكرية عليا، فقد تسوِّل لهم التخطيط لتضخيم صلاحياتهم، وصولا إلى فرض مركز قوة لهم على النظام الجديد، منتهزين الفوضى السياسية والأمنية التي يعيشها العراق.

عراق ديمقراطي بعقال عربي على رأسه يؤكد هويته وانتماءه لأمته بلا شوفينية قومية متعصبة، وبعباءة إسلامية خفيفة الظل واللون تلف جسمه ونظامه، عراق كهذا يمكن أن يلقى قبولا واسعا لدى السنة الذين أثبتوا في معارك المثلث السني أن لا عراق جديدا ومستقرا، من دون دور فاعل ومشارك لهم فيه. وعراق كهذا مقبول لدى الأكراد الرافضين أصلا لنظام أصولي شيعي يعتمد على إيران، بل قد يقبل به على الأرجح أئمة الشيعة الكبار غير المتسيسين.

السفير الأميركي الجديد نغروبونتي الذي سيحل محل السفير بريمر يملك خبرة واسعة في إقامة الأنظمة الديمقراطية اكتسبها خلال عمله في أميركا اللاتينية لتصفية آخر نظمها الاستبدادية. لكن غالب ظني أن مشروع الابراهيمي الدولي لن يكتب له النجاح ما لم يتم التغيير في البنتاغون الذي أدار بفشل كبير لا يحسد عليه عملية العراق.

استبدال وزير الدفاع دونالد رامسفيلد بات أمرا واردا في سنة انتخابية يحتاج فيها المرشح بوش لتثبيت الوضع في العراق. ومع رحيل رامسفيلد لا بد أن يلحقه يهود (مكتب الغستابو) ـ التعبير لكولن باول ـ من غلاة المحافظين الجدد الذين خططوا لبوش ورامسفيلد غزوة العراق، وثبت أنهم لا يعرفون شيئا عنه وكيف يديرونه بعد الاحتلال.

لعل مشروع الابراهيمي هو المحاولة الأخيرة لإنقاذ العراق من لجة الفوضى الغارق فيها الآن. وإذا كتبت لهذا الديبلوماسي المخضرم الغيور بصمت وصبر على عروبته وعروبة العراق النجاة بحياته ومشروعه، فسيكون النجاح حليفه في إقامة عراق ديمقراطي عادل مع طوائفه وأعراقه، عراق مسالم وغير استفزازي ومهدد لجيرانه وأشقائه.