عن المسرح والسياسة أتحدث..

TT

في بريد «الشرق الأوسط» الصادر 2004/5/13, كتب السيد صموئيل بولس عبد المسيح من هولندا يعترض على مسرحية «ماما أمريكا» للفنان محمد صبحي قائلا : هي إحدى الأعمال الفنية المسيّسة , وليست لها أدنى صلة بالفن , لأن الفن رسالة إنسانية تهدف الى السمو بالإنسان والرقي بأحاسيسه ومشاعره تجاه الحب والخير والجمال , وقد رأى أن «ماما أمريكا» مسرحية : تدعو إلى العنف والإرهاب وكراهية الآخر والدعوة إلى محاربته ..., وقد وجدت أن من واجبي , تجاه قارئ «الشرق الأوسط» , إنعاش ذاكرته بعروض مسرحية عالمية تجيشت في سنوات الخمسينيات والستينيات والسبعينيات من القرن الماضي , بكل قوة الفن وصدقه وبكل قوة الوعي السياسي المنبه للأخطار المحدقة بالإنسان والداعية إلى محاربة قوى البغي والعدوان , وقد تمثلت في كل محتل يغتصب حقوق الآخر وينتهك حرماته ويبسط عليه هيمنته غير الشرعية .

عرفنا في ذلك الإطار أسماء : بسكاتور وبريخت وبيتر فايس ورجل المسرح بيتر بروك , وعرفنا شكلا سياسيا صريحا من أشكال الفن المسرحي اسمه الكباريه السياسي , وعروضا مثل هير وأنجولا : أو غول لوزيتانيا ومارا / صاد ويو إس أو أص , وكانت كلها من عروض الاحتجاج الفني على سياسات الدول الطامعة في إذلال الآخر عن طريق احتلاله , وأخذت أمريكا بالطبع نصيبها الوفير من الغضب الفني الذي كان يهدف بالفعل إلى السمو بالإنسان والرقي بأحاسيسه ومشاعره تجاه الحب والخير والجمال عن طريق الدعوة إلى ضرورة الوعي بالمجرمين أعداء الإنسان والحض على التصدي لشرورهم ومقاومتها , وكراهية الشر والدعوة إلي محاربته من أعمال البر والتقوى . هكذا تقول رسالة الفن وهكذا تكون وظيفة الوعي السياسي .

لقد كانت مسرحية أنتيجون التي وضعها سوفوكليس الإغريقي ووصلتنا , قاطعة أكثر من 25 قرنا , واحدة من الأعمال التي تأملتها طويلا , ووجدت فيها فائدة لمراجعتها في أحوال كثيرة , فهي تطرح قضية من أهم القضايا في تاريخ الإنسان ألا وهي : متى ينتهي حق الحاكم ويبدأ حق الشعب؟

أو بشكل آخر : عند أي نقطة يكون عصيان أمر الحاكم ـ أو القوة المهيمنة ـ شيئا لا مفر منه ولو كان العقاب الدفن حيا في قبر صخري بين الأموات؟

لمسرحية أنتيجون خلفية نلخصها بسرعة . تقول الأسطورة اليونانية القديمة أن أوديب الملعون الذي قتل أباه لايوس وتزوج أمه جوكاستا , أنجب من أمه أربعة أبناء : إيتيوكليس وأخاه الأصغر بولينيس وبطلتنا أنتيجون وأختها إسمين . عندما اكتشف أوديب جريمة قتله لأبيه وزواجه من أمه , تلك الجريمة التي اقترفها من دون أن يدري , فقأ عينيه وسار هائما على وجهه لكنه قبل أن يترك مدينته لعن إبنيه بلعنة أن يقتلا بعضهما البعض , وتتشكل الأقدار بحيث يختلف الإبنان على الحكم , الذي كان من المفترض أن يتولياه مشاركة بالتناوب , إلا أن الأخ الأكبر إيتيوكليس يتفق مع خاله كريون لطرد أخيه الأصغر بولينيس مما يدفع بولينيس إلى تكوين جيش من الخارج ويحاصر مدينته محاربا أخاه وخاله ويقتتل الأخوان ويقتل كل منهما الآخر , ويقول سوفوكليس على لسان الكورس في نص المسرحية ... هذان الأخوان في الدم , من أب واحد وأم واحدة , متشابهان في الغضب ... تصادما وفازا بجائزة الموت المشتركة !

وبناء على هذه النتيجة يصبح الخال كريون هو الملك الحاكم والقوة المهيمنة , ويقرر لحظة تملكه السلطة أن يشيع جثمان حليفه إيتوكليس في احتفال يليق ببطل عظيم ويوسد جثمانه القبر بيديه , إجلالا وتشريفا للميت , بينما يأمر بعدم دفن جثة بولينيس لتنهشه الوحوش المفترسة والطيور الجارحة عقوبة لخيانته ـ من وجهة نظره ـ ويتوعد من يدفن الجثة ويخالف أمره , أيا من كان , بالموت الرهيب .

ونعرف أن عدم دفن الموتى خطيئة تحرمها العقيدة اليونانية القديمة التي تنص على ضرورة دفن الموتى ولو كانوا من جيش الأعداء . لكن الملك المتغطرس كريون , في حقده البالغ , يتعدى حدوده فيكسر عقيدة الشعب ويجور على الناس . ورغم هذا الجور البالغ يعقد الخوف ألسنة الجميع ولا يجرؤ أحد على مواجهة الظالم , وهنا تبدأ حكاية أنتيجون حين تتقدم وحدها لتقاوم الملك الجائر وتقرر تحدي الأوامر الملكية تلبية للأوامر الإلهية التي تحث على دفن الموتى , وتقوم بدفن جثة أخيها رغم تحذير شقيقتها التي تتهمها بـ «حب المستحيل» لكن أنتيجون لا ترى طاعة دينها محبة للمستحيل , بل هي واجب وأمانة في عنقها , فإذا كان كريون الظالم لا يخشى , وهو بشر , الأمر الإلهي فكيف تخشى هي أمر بشر طاغية؟ وبشجاعة , مستمدة من إيمان مطلق بصحة موقفها تستعجل تنفيذ قراره الجائر بقتلها وتقول : اعطني المجد ! وأي مجد يمكنني أن أفوز به أكثر من أن أعطي أخي دفنا لائقا؟ وهؤلاء الناس يوافقونني جميعا , ولولا أن شفاههم يغلقها الخوف , لمدحوني كذلك . يا لحظ الطغاة , إنهم يملكون امتيازات القوة , القوة الفاسدة , وهي أن يرغموا الناس على قول وفعل كل ما يرضيهم !

وحين يأخذ الحراس أنتيجون إلى حيث ينفذ فيها الحكم القاسي بالدفن حية في قبر صخري بين الأموات , يجري المؤلف سوفوكليس على لسانها هذه الكلمات السياسية الواعية التي لا تزال تحرك القلوب ونجد لها صدى في عقولنا بعد أكثر من 25 قرنا , تقول أنتيجون ـ كأنها استشهادية من فلسطين ـ لا بد أن أموت , لقد عرفت ذلك كل عمري , وكيف أمنع نفسي عن هذه المعرفة ... إذا كان علي أن أموت مبكرا , فإنني أعتبر ذلك مكسبا ً: فمن على الأرض يعيش وسط حزن كحزني ويخفق في أن يرى موته جائزة غالية؟ ... فلو أنني سمحت لابن أمي أن يتعفن وتركته جثة غير مدفونة , لكان هذا هو العذاب ... وإذا كانت أفعالي تصدمك . وتراني بسببها حمقاء . فلنقل أني قد اتهمت بالحمق من أحمق !

يحاول هيمون ابن كريون وخطيب أنتيجون أن يعيد لوالده البصيرة بعد أن أعماه الغضب والكبرياء وجنون القوة , يقول له أجمل ما يقال لديكتاتور , لا تصبح لإيجابياته أية قيمة إذا ما صاحبها الجور والعسف والبغي والطغيان , يقول هيمون : إن رجل الشارع يخشى طلعتك , إنه لا يقول أبدا في وجهك شيئا لا يرضيك , ولكن مهمتي أن أصيد لك الهمسات في الظلام , فأرى ; كيف تبكي المدينة هذه الفتاة الصغيرة .

إنهم يقولون أهذا الموت الوحشي من اجل عمل عظيم؟ ... إنها تستحق تاجا لامعا من الذهب .

تأخذ كريون العزة بالإثم ويقول : وهل طيبة على وشك أن تعلمني كيف أحكم؟ فيضع الإبن المحب كلمته الأخيرة أمام الحاكم الذي استشرى فيه داء البغي فلا حيلة في شفائه : ليست هناك مدينة على الإطلاق يحكمها رجل واحد بمفرده !

مع خروج هيمون محتجا يدخل العراف الحكيم الأعمى ترسياس , فنرى كيف يكون بصيرا من فقد عينيه ويكون الأعمى هو من فقد بصيرته , يقول ترسياس : على الأعمى أن يسير مع دليل يرشده .

ولا يرى كريون , فاقد البصيرة , هذه الحكمة البدهية , ومع الغرور والعناد والتخبط الناتج عن الانفراد بالرأي والقرار الخاطئ , رغم انف العقيدة والحكمة والحب , ينتهي بيت الطاغية كريون بالدمار , فيقتل الإبن نفسه وتتبعه أمه حزنا وهي تلعن زوجها كريون الذي خرب الديار على مذبح شهوة التسلط والإنفراد بالرأي وسطوة القوة الغاشمة .

إننا يمكن أن نرى في كريون وجه صدام حسين الذي خرب الديار في العراق , لكننا نرى فيه كذلك مصير الدولة العظمي الوحيدة ـ أمريكا ـ التي تسير حثيثا , بسياساتها الخرقاء , لتخريب الديار على مدار الكرة الأرضية . مؤججة ومنتجة العنف والإرهاب وكراهية الآخر والدعوة إلى محاربته , إننا لا نشتم أمريكا يا سيد صموئيل بولس عبد المسيح , بل هي التي تشتم نفسها بانحيازها الكامل للمحتل الصهيوني وتبريرها الدائم لممارساته العنصرية المتعصبة التي تستبيح الآخر وتكفره ولا تري له أي حق من حقوق الأمم والشعوب . إن أمريكا عدو لنا , وهي التي اختارت أن تكون هذا العدو , ومن واجب كل فنان أن يكون الدليل المرشد لتوضيح الرؤية وتجنب العثرات .