تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة..!

TT

أظهرت الانتخابات الأخيرة للهند مفاجأة نادرة في المجتمعات النامية. إذ بالرغم من كل التوقعات فإن الانتخابات البرلمانية أطاحت بالحكومة القائمة لصالح أحزاب المعارضة بقيادة حزب المؤتمر الهندي.

ندرة هذه النتيجة لم تأت فقط من كون أن الشعب الهندي صوت ضد حكومته، بل كذلك من كون أن الحكومة القائمة أذعنت لهذا الصوت ولم تحاول المقاومة بتزييف الانتخابات أو تعطيل النتيجة بشكل أو بآخر خصوصا أن التوقعات كانت لصالحها.

إن الشيء الذي يستحق الإكبار هو أن القيادات السياسية في الهند انخرطت في مجريات اللعبة السياسية بطواعية وانقياد فائقين منذ بداية الاستقلال فلم يحاول أي منها الاستئثار بالسلطة.

لا أعرف الأسباب الدقيقة التي جعلت القيادات الهندية تسير على هذا النحو ولكن لا شك أنه كان للبدايات مع جواهر لال نهرو الدور الأكبر في ذلك، إذ ربما حرص على تجذير قوانين اللعبة السياسية بهدوئه في التعامل مع معارضيه وببناء سلطة سياسية راسخة، بما في ذلك النظام الفيدرالي، أعاقت على مر السنين أي محاولات للخروج من الأطر الرئيسة للعبة السياسية. حتى عندما حاولت ابنته إنديرا غاندي فيما بعد، كما يبدو، الخروج عن نطاق اللعبة السياسية بفرض حالة الطوارئ في البلاد فإنها لم تنجح في ذلك إذ سرعان ما أطيح بحكومتها بمفاجأة مثل التي شاهدناها حديثا. وعندما بدأت الحكومة التي حلت محلها باتخاذ إجراءات ضد القيادات المعارضة، خصوصا إنديرا غاندي، صوت الشعب مرة أخرى ضدها وأرجع إنديرا غاندي إلى الحكم مرة أخرى. فالتأسيس الصحيح لإجراءات السلطة، خصوصا فيما يتعلق بتداولها، مكن الديمقراطية من هذا النجاح الباهر.

ولأن باكستان وبنجلادش لم تمرا بنفس التجربة في البدايات الأولى ومنيتا بقيادات لم تحرص على تخفيف حدة المواقف السياسية والعقائدية، كما فعل نهرو في الهند، بل ربما أذكتها، أصبحت اللعبة السياسية تسير بدون انضباط، خصوصا عندما تدخل الجيش في الصراع على السلطة. فالفهلوة أو الحدة أصبحت الوسيلة السائدة للحكم وللعلاقات بين عناصر السلطة للأسف. إن السبب الرئيس لنجاح الديمقراطية في أي بلد هو حرص قياداته السياسية والثقافية على تخفيف حدة المواقف السياسية، إذ أن المواقف المتطرفة من العناصر المختلفة للسلطة تولد الاستقطاب وتذكي ناره، ولذلك تحرص السلطة المتنورة على مكافحته وتحاول الابتعاد عن التطرف في العلاقة بين عناصر السلطة وفي التعامل مع القضايا المختلفة.

السؤال الآن هو لماذا صوت الشعب الهندي ضد حكومته الحالية بالرغم من النمو الاقتصادي الذي تشهده البلاد؟ هناك لا شك الكثير من التفاصيل التي يمكن أن تفسر هذه المفاجأة، وقد تطرقت صحيفة النيويورك تايمز لبعض منها في مقال لأحد كتابها في 15 مايو الحالي. فبعض هذه التفاصيل يخص السياسات الزراعية الفاشلة لبعض حكومات الولايات المحسوبة على حكومة فاجبايي، خصوصا أن الجفاف الذي أصاب بعض أجزاء الهند في السنوات الأخيرة ضاعف من فشل هذه السياسات. ولكن بدلا من أن تكرس هذه الحكومات جهدها لحل هذه المشاكل اتجهت إلى الاهتمام بمشاريع مثل تقنية المعلومات لا تصل فوائدها بالسرعة الكافية والوضوح الساطع إلى الطبقات الفقيرة التي ما زالت تشكل الأغلبية الفائقة في الهند. وفي العموم فإن النمو الاقتصادي المتسارع الذي تشهده الهند لم تصل نتائجه بعد للغالبية العظمى من الناس بالرغم من تنامي الطبقة الوسطى، فبدت السياسات الحكومية وكأنها تحابي بعض الطبقات على حساب الطبقة الفقيرة. وقد أصاب هذا التباين الأغلبية الفقيرة بالإحباط الذي ترجم في الانتخابات إلى أصوات غاضبة ضد الحكومة وحلفائها، ولم تنج الحكومة الحالية من هذا المصير تمسحات أحزابها اليمينية بالعصبيات الهندوسية، فقرقرات البطون علا صوتها على ضجيج العقائديات. بل أن هذه التمسحات القصيرة النظر دفعت الأقلية المسلمة والأقليات الأخرى إلى التصويت مع المعارضة ولم تنفع الإلهاءات التي حاول رئيس الحكومة تقديمها للأقلية المسلمة خصوصا فيما يتعلق بموضوع مسجد بابري.

ما هو الدرس الذي يمكن الخروج به من هذه التطورات؟

الشيء المؤكد هو أن الحكومة الجديدة لن تستطيع أن تحل المشاكل الاقتصادية الكبيرة في الوقت المتاح قبل الانتخابات القادمة في خلال أربع سنوات. هل يعني هذا أن الشعب سيصوت ضد هذه الحكومة في الانتخابات القادمة، وتتكرر الإطاحات مثلما كان يحدث في إيطاليا وفرنسا منذ زمن ليس بالبعيد؟ وهل وصلت الهند إلى هذه المرحلة وستظل معها إلى وقت بعيد؟ أعتقد أن هذا وارد إلا إن قامت الحكومة الجديدة بإجراءات تذكي آمال الغالبية الفقيرة بدلا من أن تحبطها. وتستطيع هذه الحكومة أن تفعل ذلك إن هي واصلت سياسة النمو الاقتصادي الحالية عن طريق الاستمرار في تمكين القطاع الخاص من لعب دوره بدون إعاقات تذكر. أقصد من ذلك أن لا تعمد الحكومة الجديدة إلى فهم الأصوات الغاضبة على أنها أصوات من أجل إجراءات اشتراكية تصيب القطاع الخاص المتنامي في مقتل، وتقضي بالتالي على الدجاجة التي تبيض ذهبا. فقد يكون من المفيد بدلا من ذلك أن تحقق هذه الحكومة تطلعات الغالبية في حياة أفضل عن طريق تصميم أنظمة للإعانات المالية والعينية تساعد العائلات الفقيرة على تحمل شظف العيش بدون تشجيع على الاتكالية وخنق للإنتاجية.

سبق أن استعرضت بإيجاز في مكان آخر السياسات التي اتبعتها الحكومة الأمريكية من أجل تعزيز الطبقة الوسطى في الولايات المتحدة، وقد يكون من الممكن منهجيا تطبيق سياسات مماثلة في الهند.

ولكن الشيء الأهم في نظري هو أن توطن القيادات السياسية في الهند نفسها على احتمال تبادل السلطة بتعاقب سريع ومتكرر، فقد لا تستطيع أي حكومة في الوقت المتاح لها قبل الانتخابات حل الكثير من المشاكل الاقتصادية، لذا فبدلا من أن تعمد كل حكومة جديدة إلى إلغاء إنجازات الحكومة التي سبقتها لأسباب عقائدية بحتة عليها أن تبني على ما أنجز وتضيف إليه ما يعزز مسيرته. هذا يعني أن التباعد الأيديولوجي بين الأحزاب والحكومات المتعاقبة لم يعد مفيدا. نحن عادة نستهزئ بالنظام السياسي الأمريكي لعدم وجود تباين عقائدي كبير بين الحزبين الرئيسين هناك، ولكن ربما أن أحد أسرار النجاح الاقتصادي للولايات المتحدة هو أن التقارب العقائدي بين هذين الحزبين مكن من استمرارية السياسات التنموية فيها بدون خضات متعاقبة تعيق تراكم فوائدها، مع عدم التردد في تصحيح مسيرتها إن لزم الأمر. كذلك فإن المنجزات الاقتصادية الأخرى سواء في اليابان أو في أوروبا حاليا ربما تحققت بسبب وجود هذا العامل، إذ لم تعد الأحزاب متباينة في سياساتها الاقتصادية في معظم الأحوال بحيث أصبحت متقاربة، باستثناء تلونات سطحية تكسر الرتابة وتحيي الآمال لدى العامة. وعلى هذا النحو فإنه حتى إن غير الشعب حكومته لأسباب آنية فإن المسيرة التنموية تستمر بثبات بدون انقطاع أو تلكؤ.

* مدير جامعة الملك فهد للبترول والمعادن سابقا