الزمان القاتل

TT

منزلنا القديم في جدة أصبح كالشوكة في حلقي، وأصبحت كلما أردت الذهاب إلى مكة أو إلى جنوب جدة مروراً بجسر الميناء، ألتفت يمينا صوب البحر لكي لا تقع عيني عليه، وإذا كنت عائداً ألتفت شمالاً، وأحياناً كنت أغمض عيني حتى لا أراه.. وانني متعجب حتى الآن كيف لم يحدث لي حادث حينما أسوق سيارتي وأنا على هذا الحال المزري من تشتت البال.

إلى أن كان يوماً مشهوداًً، وكنت راكباً مع أحد إخواني الذي أتى من مدينة بعيدة، وفجأة وجدته يتجه إلى ذلك المنزل القديم ليستعيد على حد زعمه ذكرياته، حاولت أن اثنيه، أو يتركني وشأني أن أنزل من سيارته، ولكن عناده، مع الكثير من ضحكاته، جعلتني أستسلم، وعندما دلفنا إلى الفناء، بحثت عن الأشجار والأزهار والخضرة، فلم أجد غير الجفاف واليباس، واليباب، وقد تحول البلاط الملون إلى تراب من كثرة ما تقاطر عليه من الرطوبة والحرارة والركام.. أجلت بصري وأنا غير مصدّق.. أهكذا يفعل الزمان بالأشياء؟!

هنا كان يجلس أبي رحمه الله، وهنا كان يلعب الأطفال الذين لم يعودوا اليوم أطفالاً، هنا مكان التلفون الذي كثيراً ما قضيت به ومعه حاجاتي، فأين ذهب، وأين ذهبت الأسلاك، والأرقام، والأصوات، والأسماء، والملامح؟!

ما عادت الأبواب أبواباً، ولا الشبابيك شبابيك، ولا حتى الحيطان حيطاناً، الباقيان الوحيدان غير الله، هما الأرض التي تحت، والسماء التي فوق.

أين ذهب الأهل والضيوف والزوار وأنوار المصابيح وحماس الحياة المتقد؟

إنني اليوم وقد كونت لي بيتاً وأسرة، لا أجد اسماً ولا وجهاً كان يشاركني في ذلك البيت القديم، لقد تفرق الجميع في جهات العالم الأربع، وبعضهم ودع الدنيا إلى غير رجوع.. فهل معنى ذلك أن البيوت تتناسل من البيوت؟

لقد تنقلت طوال حياتي غير المجيدة في بيوت وأماكن عديدة، وفي كل بيت يخرج ناس ويدخل ناس، والعجلة تدور بدون توقف.. وكل من يقرأ هذا الكلام مر بنفس التجربة القسرية التي مررت بها.. وهذا يدل أن دوام (الحال من المحال).. فهل نبصر؟ هل نعتبر؟ هل نلتفت إلى الوراء قليلاً، لكي نميز الأمام والمستقبل جيداً؟

لو قدر لأحجار وطوب واسمنت وأخشاب وزجاج البيوت أن تتكلم، فماذا سوف تقول يا ترى؟ ماذا سوف تكشف من الأسرار؟ وماذا سترسم من الأفراح والأعراس والولادات والضحكات التي جلجلت في الأرجاء؟ وفي المقابل ماذا سوف تجلو عنه من المآسي والخناقات والعداوات والوفيات والبكاء الذي لا تخلو منه غرفة من الغرف؟

إن مقال اليوم مليء بالاسئلة التي ليس لها إجابات.. فقد هزني فعل الزمن، وهد ما تبقى من كياني الهزيل، وأرجعني القهقرى كصحوة المحتضر الذي لا يريد أن يفارق الحياة.. أو هو على أتم الاستعداد أن يفارقها، لكن (بشرف)، وليس على هذا الأساس من الدمار، والشطب، والطرد.

فيا أيها الزمان: (أكاد أشك فيك وأنت منّي).