سيكولوجية الدفاع عن النفس

TT

سأل الله موسى عن عصاه: «وما تلك بيمينك يا موسى قال هي عصاي أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى». والسؤال ما هي المآرب الأخرى التي لم يفصح عنها؟ قد تكون لإسقاط الثمر وقد تكون «للدفاع عن النفس». وتبقى كلمة مآرب أخرى مفتوحة لاحتمالات كثيرة.

والدفاع عن النفس غريزة من أجل البقاء. ولكن مشكلة الدفاع عن النفس تختلط أحياناً بالهجوم فيصعب تحرير «الدفاع عن النفس» عن «الهجوم على الآخرين». وحسب هتلر فإن الهجوم خير وسيلة للدفاع. وحسب الفيلسوف نيشته فإن الكل يبني «وزارات دفاع» وهذا يحمل سوء النية المبطنة بالآخرين. ووزارات الدفاع بنيت في حقيقتها للهجوم. ومن دافع هاجم. فلا يعرف من هاجم ومن هوجم؟ والولع بالألفاظ لا نهاية له. وحسب محمد عنبر في كتابه «جدلية الحرف» أن كل كلمة تحمل نقيضها. وأجهزة الأمن في عالم العرب هي في حقيقتها أجهزة رعب.

وفي حرب العراق وإيران كان كل طرف يزعم أنه «يدافع» عن نفسه فاستمرت الحرب تحت هذه «الآلية» ثماني سنين عجاف. وعندما أمر أنتوني إيدن الجيش البريطاني بالزحف على مصر عام 1956 زعم أنها من أجل إقرار السلام.

وفي القرآن عرض لاستراتيجية مختلفة هي عدم «الدفاع عن النفس». «لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي لأقتلك» وهي من آخر ما نزل من القرآن. ولكن هذا المفهوم ملغي عند المسلمين. ويعتبرون أن الآية منسوخة بآية السيف. وهي ليست كذلك. ولو كان من غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا.

وغريزة الدفاع عن النفس أصلية في نفس الإنسان. وهي خلقت من أجل المحافظة على العضوية. ولولا الغضب والخوف ما بقينا على قيد الحياة. وهو ما يعرف بالذكاء العاطفي. ومركزها ليس في الدماغ العلوي الكبير بل في أشد المراكز البدائية ظلاما في تلافيف الدماغ. ونشترك مع الحيوانات فيها. فكما تخاف القطط من الكلاب نخاف نحن من الأفاعي والمخابرات.

وكتب دانييل جولمان كتابا كاملاً بعنوان الذكاء العاطفي «Emotoinal Intellegence» توصل فيه إلى خلاصة مثيرة عن «دورة العواطف في المخ». وكما كانت هناك دورة دموية في العروق فهناك دورة عاطفية في المخ تربط لوزة «الاميجدالا» في الدماغ المتوسط مع القشر الدماغي. والذكاء الإنساني المقاس بواسطة (IQ) غير دقيق ما لم يدخل العنصر العاطفي فيه. ويرى الفيلسوف برتراند راسل أن العواطف هي وقود الأفكار. والفكرة لا تعمل بدون طاقة من العاطفة. كما لا تترسخ بدون شحنة من الانفعال. والقرآن قالت عن الآيات إنها تقشعر منها جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم لذكر الله. ولم ينزل القرآن «جملة واحدة» بل على مكث لأنه لم يكن كتاب فلسفة بل تربية.

والخوف غريزة في النفس أساسية بسبب ارتباطها بالبقاء. «ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض». ومنه شرع الجهاد المسلح للدفاع عن المظلومين في الأرض. ولولا ذلك «لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا. ولينصرن الله من ينصره».

ويجب الالتفات إلى أن الإنسان حينما ودع «الغابة» ودخل المجتمع انتقلت حمايته الفردية من ذراعه إلى ذراع الدولة. و«وظيفة» الدولة الأساسية هي «توفير الأمن» للأفراد تحت ظلها. ويلعب الفرد في احترامه للقانون والدفاع عنه دور «الشرطي» لحين حضوره. وفي العراق مع انفلات الأمن بعد انهيار نظام الفاشيست البعثي بدأ الناس يقتلون البعثيين من جنود صدام المصدوم بدافع الثأر، وهو أمر متوقع بعد أكثر من ثلاثين سنة من الاضطهاد البعثي المنظم. وفي نهاية 2003 تشكلت محكمة في العراق لمحاكمة مجرمي النظام البعثي السابق. وبذلك يدخل القضاء والقانون إلى الساحة وينتهي الثأر والدكتاتورية على حد سواء. هذا إذا وجرت وفق أصول القضاء المتعارف عليها في العالم من تمكين المجرم من الدفاع عن نفسه وإلا استبدلنا النظام البعثي بأتعس منه مثل الذي يستبدل السل بالإيدز.

وعندما يعترض لص أو شقي طريق أحدنا يريد سلب ماله أو اغتصاب زوجته واستطاع الاتصال بالشرطة لردعه فهو الأفضل لأنه تفعيل للدولة وأدائها وظيفتها الذي من اجله بنيت الدولة. ولكن رجل الدولة ليس موجودا دائماً فيجب عندها ردع اللص أو الشقي والمجرم أو المريض النفسي فيأخذ الفرد مكان رجل الدولة لحين قدوم رجل الدولة الفعلي. وبذا يجب أن يكون المواطن الصالح فردا متمرنا جيدا على الفنون القتالية ويجيد السباحة والرماية ويثب على الخيل وثبا ويتقن قيادة الموتورسيكل والسيارة والقطار والطائرة. وأن يكون رياضيا يتمتع بالقوة العضلية المناسبة. وأن يتدرب على فنون القتال واستعمال الأسلحة البسيطة والمعقدة للدفاع عن النفس بتوجيه ضربات فنية ليس للقضاء على الخصم بل لردعه عن ممارسة الظلم. ثم الإمساك به وتسليمه للقضاء. وهذا الكلام ينفعنا في التفريق بين تشغيل غريزة الدفاع عن النفس التي هي أساسية للبقاء، وبين مجابهة الدولة في العمل السياسي. ففي مجابهة الدولة أو النظام السياسي يجب عدم الدفاع عن النفس بل الصبر على الأذى ولو ضرب الإنسان وسجن. والمواجهة للأوضاع السيئة يجب أن تمشي على ساقين من الصبر والعصيان المدني أو المقاومة السلمية كما فعل غاندي ومن قبله الأنبياء في مواجهة الظلم وتغييره.

وهكذا فهناك حدود بين ثلاث مناطق منها منطقتان واضحتان والثالثة رمادية.

أولاً عدم مقاومة الدولة لأنها موجودة بالأصل من أجل حماية الأفراد. وفي حال وجود حكومة جائرة فيجب عدم السكوت عليها بل اتباع مذهب أبي ذر الغفاري بالمواجهة السلمية لها حين الانحراف. وعدم مجابهة القوة المسلحة بالقوة المسلحة لسبب براجماتي وأخلاقي. فهو غير مجد في وجه دولة تغولت ووضعت يدها على أسلحة عاتية. وهي أخلاقية لأن العنف يزيل العنف ولكنه يستبدل العنف بالعنف. ليزول فرعون ويأتي محله فرعون جديد.

وبين الدفاع الفردي ضد شقي والعمل الفكري السياسي ضد الحكومة الجائرة فرق كبير. وفي حال عدم وجود الدولة وتعرض أحدنا لهجوم شقي مجرم فيجب أن يردع، فهذه هي الروح السلامية.

ويجب أن نستوعب المفهوم السلامي جيدا. وفي اليابان يدربون الناس على القتال الفردي من أجل الدفاع عن النفس ويقولون له في الدرس الأول إنك تتعلم هذه الرياضة ليس من أجل توليد الصراعات بل من أجل إخمادها. ومنه يجب أن يكون الفرد دوما مدربا قوي البدن. والمؤمن القوي أحب إلى الله من المؤمن الضعيف.

ويروي دانييل جولمان في كتابه «الذكاء العاطفي» أن صديقه تيري روبنسون ذهب الى اليابان من أجل تعلم نوع من المصارعة اليابانية المتميزة اسمها «الآيكيدوAikido» ويستطيع صاحبها رمي خصمه بضربة فنية. وكان قد خرج لتوه من نادي المصارعة بعد تمرين طويل استمر ثماني ساعات فخرج وعضلاته قد انتفخت بما فيها الكفاية لرمي أي خصم ففوجئ برجل عملاق مخمور يصعد القطار معه إلى ضاحية في طوكيو. التفت الرجل السكير وهو يزأر فناول لكمة إلى امرأة بجانبه فطارت هي وطفلها إلى حضن رجلين مسنين سارعا معها إلى الاختفاء في نهاية المقصورة. ثم إنه وهو يترنح أذاق العديد من الجالسين اللكمات وبذيء الكلام ولم تكن الشرطة حاضرة. هيأ تيري نفسه للصراع وشد على قبضته. وكان يتذكر قول معلمه: «إن المصارعة اليابانية هي فن المصالحة; فمن يفكر في القتال ينفصل عن الكون، لأنك لو حاولت السيطرة على غيرك فقد هزمت بالفعل. نحن نتعلم الآيكيدو كي ننهي الصراعات; لا كيف نبدأها»، حدق المخمور في وجهه ثم قال: أجنبي حقير وتوتر الجو. وفي هذه اللحظة خرج صوت شديد من كرسي في الخلف إنما في غاية المرح: هيه.. أنت يا صاحبي. التفت السكير فإذا برجل مسن يشير إليه بالاقتراب. حدق السكير وقال عليك اللعنة لماذا أتحدث معك؟ قال بصوت مرح دافئ ماذا شربت أخبرني؟ أجاب: السكير ولكن ما شأنك أنت؟ قال: حسنا إنها شرابي المفضل أشربه كل ليلة مع زوجتي في الحديقة الخلفية تحت ظلال الزيزفون. انفرجت أسارير السكير وأجاب أنا أحب شجر الزيزفون. قال المسن: يبدو أن عندك زوجة رائعة. عندها انفجر المخمور يبكي بصوت عال: لقد فقدت كل شيء، زوجتي ووظيفتي وبيتي. لقد ماتت زوجتي من فترة قريبة. أنا خجل من نفسي ثم انتحب. قال العجوز لا بأس عليك تعال. ثم أدناه إلى حجره وبدأ يقص عليه أكثر. وعندما غادر تيري القطار كان العملاق يتمدد كالحمل الوديع في حجر الرجل المسن.