خيارات واشنطن في العراق مرة.. والقليل يحتفظ بنكهة طيبة

TT

أصبح واضحا تماما أن الولايات المتحدة لم تعد الحل في العراق، بل غدت هي نفسها مشكلة.

فهي من خلال تراكم أخطائها، ونفور أكثرية العراقيين منها، أصبحت، بشكل متزايد، مركزا لكل القضايا المثيرة للجدل. ذلك لا يعني أن واشنطن لا تمتلك ما تقدمه للعراق، أو أنها تفتقد الى القوة للقيام بعمل أكبر، لكن المتطلبات السياسية أصبحت الآن ثقيلة جدا، بحيث يصعب تحقيق أكثر السياسات حكمة، ان توفرت، من خلال الولايات المتحدة وحدها.

في هذه المرحلة، يجب أن يتركز هدف الولايات المتحدة الأساسي في الاسراع بإقامة سلطة عراقية ذات سيادة كاملة، تتكلف بمسؤولية البلد، بلا خيوط مشدودة الى واشنطن تحركها كيفما تشاء.

لم تعد في اليد أية خيارات جيدة يمكن السعي لتحقيقها في العراق، باستثناء ما هو سيئ. فالخيارات الجدية قد استنفِدت قبل أشهر عدة، والآن كل ما تسعى إليه الولايات المتحدة هو خيارات ذات حدين. المغادرة المبكرة التي تعني ترك المكان غارقا في الفوضى ، في ظل غياب مؤسسات قابلة للبقاء طويلا؟ أو البقاء للسعي لبناء مؤسسات جديدة، وفي هذه الحالة تظل هدفا لهجمات متصاعدة وتطرف متزايد في الشرق الأوسط ككل؟ وفي نهاية المطاف ستتفاقم المخاطر الناجمة عن المغادرة المبكرة إذا تم تأخير المغادرة.

لنواجه الوضع كما هو. ستكون الولايات المتحدة محظوظة لو أنها تمكنت من الخروج من العراق الآن بدون أن يُقتل مئات آخرون من الجنود، بمن فيهم الإيطاليون واليابانيون والدنماركيون وموظفو الصليب الأحمر والأمم المتحدة، المستهدفون من قبل المتطرفين بعد أن أصبحوا جزءا من المشروع الأميركي في العراق.

أهداف واشنطن المبكرة أصبحت الآن مجرد أوهام: أن يكون العراق صديقا جديدا وحليفا للولايات المتحدة. وقاعدة للهيمنة الأميركية عبر منطقة الشرق الأوسط. وأن يقيم علاقات دبلوماسية فورية مع إسرائيل ويفتح خط أنابيب لتل أبيب. وأن يصبح العراق منتجا ضخما للنفط في المنطقة، بحيث يساعد على خفض أسعاره. نحن سنكون محظوظين إذا تمكنا من الخروج بدون أن نترك وراءنا حربا أهلية أو حالة من الفوضى، توفر أرضية خصبة للإرهابيين والمتطرفين الآخرين. فأي انسحاب سريع الآن سينظَر اليه على انه هزيمة للولايات المتحدة وقد يعزز قوة متطرفين آخرين. لكن هل سيؤدي بقاء الاحتلال الأميركي مدة اطول الى التقليل من الشعور بتحقق انتصار المتطرفين في نهاية المطاف؟

الحقيقة هي أن أول زعيم عراقي يتم انتخابه ديمقراطيا، بغض النظر عمن سيكون، سيحتاج إلى تحديد سلطته المستقلة. ولن يكون ممكنا إظهار السيادة المتشكلة للتو، إلا من خلال اتخاذ قرارات وسياسات ينظر اليها كإجراءات تقوم بها دولة مستقلة تماما عن الولايات المتحدة وعن أجندتها الأولية. انظروا إلى المشهد على الأرض اليوم: يتجه العراق نحو مرحلة كلاسيكية من النضال لتحقيق تحرره الوطني من المحتل، بغض النظر عن درجة روح الكرم التي تظن الولايات المتحدة أنها تتمتع بها. هذا النضال يتزايد حدة، ويعمق أكثر فأكثر الانقسامات يوما بعد يوم، وهو أصبح مصدر جذب لإقحام قوى أكثر تطرفا داخل البلد مثل رجل الدين مقتدى الصدر.

الاحتلال هو السبب الأكثر اثارة للعواطف في بلد يتفق الجميع فيه على أن الصدر أصبح في المقدمة، من حيث استغلاله لهذا العنصر، وبات يجذب الكثير من السنّة إلى جانبه. قد لا يكون الصدر قادرا على التنافس على المستوى القيادي، لكن حقيقة تنامي قوة ذات توجه وطني هو أمر لا تستطيع واشنطن تجاهله.

المؤسف هو أن المرء لا يستطيع أن يكون متفائلا في قدرة العراق، بما فيه من تعدد إثني وطائفي، على حل قضايا القيادة المستقبلية بطريقة سلمية بعد مغادرة الولايات المتحدة. لكن في غياب صراع واسع حول وجود الولايات المتحدة، من الممكن جعل الزعماء الجدد أكثر انفتاحا في السعي للحصول على مساعدة من الخارج. فذلك سيتم تنفيذه في ظل وجود سيادة كاملة لسلطتهم.

لكن ذلك لن يتم إلا إذا وقع انفكاك كلي للولايات المتحدة عن العراق. وهذا مختلف جدا عما تخطط له واشنطن الآن لما بعد 30 يونيو، فهي تريد إبقاء سيطرتها على الجيش وعلى جوانب أساسية في الاقتصاد ، بل وحتى على السياسة النفطية للعراق. وهذا التوجه لتحقيق السيطرة من وراء الكواليس لن يحل أي مشكلة. ذلك ان هذه الثلة من آمري الوحدات والمستشارين، ستكون مستهدفة منذ اليوم الأول. وأي زعيم وطني جديد يحتاج إلى أن يبرهن على استقلاليته في اتخاذ الإجراءات، وعلى انه قادر على إثبات تحقيق السيادة الوطنية مجددا. ليس من الضروري أن يكون كارها للولايات المتحدة، لكنه سيشكرنا فقط ويطلب منا بحزم ووضوح أن نغادر الآن جميعا.

خيارنا المر هذا يحوي مع ذلك بعض العناصر الإيجابية. أولها، أنه دعوة واضحة لفك ارتباط الولايات المتحدة مع وضع أصبح الآن في حالة إخفاق تام. كذلك فإن ذلك سيمنح الحاكم المقبل لعراق حر الفرصة في ان يطلب من الجميع المجيء إلى العراق والمساعدة وفقا لقرار الحكومة العراقية ذات السيادة الكاملة. فأفراد الأمم المتحدة أو الصليب الأحمر، الذين هم مستهدفون الآن من قبل المتطرفين لتسهيلهم تحقيق المشروع الأميركي، لن يكون عليهم العمل تحت الهاجس المقلق ذاك، بل سيكونون بدلا من ذلك، في خدمة حكومة ذات سيادة بحاجة إلى التخلص من عدد كبير من المتطرفين الأجانب، أو من بعض الميليشيات العراقية المتمركزة في بعض المدن الصغيرة، وهم سيقومون بذلك باسم سيادة العراق لا لمساعدة المشروع الأميركي، بل ان استدعاء بعض القدرات الأميركية للعودة الى العراق والمشاركة في إعادة الإعمار، في اطار دولي أوسع، سيكون امرا قابلا للتصور.

لكن وقتا ما يجب أن يمر قبل أن يتم التخلص من آثار الندوب التي تركها الاحتلال الأميركي للعراق خلال سنة. وهذا ما لم تكن الإدارة الأميركية تأمل بتحقيقه في العراق، لكنه مع ذلك قد يكون افضل الخيارات السيئة. إذ لن يكون هناك قتل للاميركيين داخل العراق. وسنكون خارج الصور التي تبثها فضائية الجزيرة، ولن نكون مركزا خلافيا دوليا أو الفيل الصامت في الغرفة. ومع تهيئنا للانسحاب، سيكون بإمكاننا المساعدة على حشد دعم للقائد الجديد المتمتع بالسيادة بالشكل الذي يرتأيه.

ان تبقى الولايات المتحدة متابعة للشوط ربما عكس صدى جيدا من الناحية الكلامية، الا ان ذلك سيكون كارثيا على الطرفين، الولايات المتحدة والعراق معا.

*نائب رئيس مجلس الاستخبارات القومي السابق في وكالة الاستخبارات المركزية

*خدمة «تريبيون ميديا سيرفس انترناشونال»- خاص بـ «الشرق الأوسط»