التحديث السياسي ومعاركه في العالم العربي

TT

قد لا نكون مجازفين عندما نعلن أن مظاهر التوتر والتناقض والتراجع التي تشكل السمات الأبرز في فكرنا السياسي المعاصر، تعود في بعض جوانبها إلى قسر النفس النظري المهيمن على معاركنا في الفكر والسياسة والمجتمع، نحن هنا لا نفسر ظواهر تاريخية مركبة بعامل واحد، لكننا نتصور أن القصور النظري يعد واحدا من العوامل المساعدة على فهم أكثر دقة لجوانب عديدة من إشكالات التحول السياسي الحداثي والتحديثي في عالمنا العربي.

لقد انطلقت معاركنا في الإصلاح الديني والثقافي والسياسي وإصلاح المؤسسات منذ ما يقرب من قرنين من الزمان، وأتاحت لنا المعارك المذكورة في صورها المتعددة، استيعاب جملة من العناصر في موضوع المرجعية السياسية الحداثية، ومع ذلك فإن مظاهر التأخر العامة في مجتمعاتنا اليوم تكشف بما لا يدع اي مجال للشك بأن محصلة معاركنا وتجاربنا في المجال المشار إليه، لم تثمر ما يسعف ببناء قواعد ارتكاز نظرية وتاريخية قادرة على تحصين مشروعنا في النهوض.

وقبل تشخيص بعض جوانب معركة الحداثة والتحديث السياسي في فكرنا المعاصر، نشير إلى أن تصورنا للحداثة لا يرتكز إلى مبادئ فكرية مغلقة فليست الحداثة في تصورنا مجرد مفهوم أو جملة من المفاهيم الموصولة ببعض الأنساق والمنظومات الفلسفية والوقائع التاريخية الحاصلة في أوروبا ابتداء من القرن السابع عشر، بل إنها كما نتصورها ونفكر فيها تستوعب ذلك وتتجاوزه، وذلك بناء على معطيات التاريخ الذي ساهم في تبلورها.

ومعنى هذا أننا لا نستكين في منظورنا للحداثة ونحن نمارس عمليات تحليل ونقد منظومات فكرنا السياسي إلى تصورات ورؤى فكرية مغلقة، قدر ما نسلم بجملة من المبادئ النظرية التاريخية العامة التي تنظر إلى الإنسان والمجتمع والطبيعة والتاريخ من منظور يستوعب ثورات المعرفة والسياسة كما تحققت وتتحقق في التاريخ الحديث والمعاصر، وفي أوروبا بالذات، باعتبار أنها موطن التشكل الأول للمشروع الفلسفي الحداثي.

أما الحداثة السياسية فإنها تقدم في نظرنا أفقا في النظر والعمل يمكن العرب في حال بنائه وإعادة بنائه من تهديم أوهامهم القديمة والجديدة ويسعفهم بتقويض دعائم الاستبداد السياسية ومختلف أشكال الحكم المطلق، بهدف فسح المجال أمام مختلف المبادرات القادرة على تطوير نظرنا السياسي.

بناء على روح الفقرات السابقة نفترض انه يمكننا تقسيم معارك الراهن في موضوع إصلاح أوضاعنا السياسية في العالم العربي إلى معركتين كبيرتين، تتصل الأولى منهما ببعض القضايا الجزئية التي تساعد العناية بها في عمليات تعزيز الجدل السياسي الحداثي في فكرنا، بالصورة التي تساعد على تعميق جذورها في تربة مجتمعاتنا. تنطلق هذه المعارك من نقد لغة ومنطق الخطاب الذي يعد وسيلتنا في الكتابة والبحث، ونتصور أن النقد ينبغي أن يتجه لإنجاز المهام المستعجلة الآتية:

* تجاوز الخطاب المخاتل والمهادن للتيارات السياسية التي تستعمل لغة الإطلاق في نظرها للشأن السياسي والتاريخي ويترتب عن هذا التجاوز في تصورنا التخلي عن المنزع التوفيقي الميكانيكي، وهو المنزع الذي ساهمت في تأسيسه الاختيارات ذات المنحى السلفي ضمن شروط تاريخية مختلفة تماما عن الشروط المؤطرة للصراع في حاضرنا.

* تجاوز المعالجات التجزيئية في النظر إلى الحداثة السياسية، فقد ظل الفكر السياسي النهضوي يعنى بأسئلة لا يمكن فصلها عن مشروع الحداثة السياسية، إلا أن إغفاله لمطلب استيعاب الحداثة السياسية في كليتها، وبناء على مقدمات الرؤية الفلسفية المؤسسة لها، حوّل القضايا الجزئية إلى قضايا معزولة عن منظومتها الفكرية الحاضنة.

أما المواجهة الثانية في باب المعارك النظرية التي نفترض انه ينبغي أن تتواصل في المدى المتوسط والطويل، بهدف مزيد من إسناد المشروع السياسي الحداثي بالفكر القادر على تعزيز مستويات حضوره، فتشمل موضوعات بعضها نظري، وكثير منها موصول بإشكالات العمل السياسي والمؤسسي في مجتمعاتنا.

يتعلق الأمر هنا بمجال الإصلاح الثقافي والإصلاح الديني في فكرنا المعاصر، وإذا كان من المؤكد تاريخيا أن مشاريع في إصلاح المجالين المذكورين قد نشأت في فكر النهضة العربية، في القرنين الماضيين، وان مشاريع فكرية أخرى ما تفتأ تنشأ مؤسسة لجملة من التصورات المساعدة على إتمام عمليات هذا الإصلاح، إلا أننا نعتقد انه لن يكون بإمكاننا توسيع دوائر الوعي الحداثي في فضائنا السياسي فكرا وممارسة، دون مزيد من العمل القادر على تفتيت الاسمنت اللاحم للفكر الوثوقي في ثقافتنا.

لقد انطلق مشروع الإصلاح الديني في فكرنا المعاصر، كما هو معروف في نهاية القرن التاسع عشر، وأنجزت الحركة السلفية في بداياتها خطابا توفيقيا، نزع نحو بناء شكل من أشكال المواءمة بين قيم الإسلام وقيم الفكر الحديث والمعاصر، وقدم مشروع محمد عبده الإصلاحي الذي كان يروم تكييف المجتمع الإسلامي ومبادئ العقيدة مع مقتضيات ومتطلبات الأزمنة الحديثة، في روحه العامة صورة لنمط في التوفيق مكافئ للمعطيات وللشروط التاريخية التي سمحت بتبلوره، لكنه استنفد في نظرنا قيمته الإصلاحية المتدرجة، ورصيده النظري الموصول بزمانه، وأصبحنا بعده في حاجة إلى بناء مواقف أكثر قدرة على مواجهة أسئلة زماننا وطموحات عصرنا بمنطق وأدوات أخرى في الفهم المتعقل والعمل. نجد عناصر من هذا التوجه الإصلاحي الجديد في مشروع نقد العقل العربي الإسلامي كما بلورته أعمال محمد عابد الجابري ومحمد أركون، وكما تبلور بصيغ أخرى في إسهامات الفكر النقدي العربي المعاصر في مختلف تجلياتها النصية المتشكلة في نهاية الربع الأخير من القرن العشرين، وهو الأمر الذي نعتقد انه ساهم في تعزيز جبهة العمل الفكري في مجال الحداثة والتحديث السياسي، وذلك رغم مظاهر التراجع التي ارتبطت بظهور تيارات معادية للعقلانية الحديثة والمعاصرة. أما معركة الإصلاح الثقافي، فإننا نعتقد أن تعميقها يتطلب مزيدا من تقوية دعائم الفكر التاريخي والتاريخ المقارن، تاريخ العقائد والثقافات، حيث تساعد معطيات هذا التاريخ حين حصولها في عملية تعويد أذهاننا على ملكة تنسيب الاحكام والتصورات الاطلاقية المهيمنة على آليات تفكيرنا. صحيح أن إنجاز عملية تحول ثقافي جذري في فكرنا يتطلب جهودا متواصلة في باب استيعاب نتائج الثورات المعرفية والعملية، إلا أن هذا الأمر الذي نتصور إمكانية تحقيقه في المدى الزمني المتوسط، لا ينبغي أن يجعلنا نتوقف عن استكمال مهام الحاضر المستعجلة والمتمثلة في مشاريع الترجمة. ومشاريع تطوير منظوماتنا في التربية والتعليم، إضافة إلى تشجيع البحث العلمي، وتوسيع مجالات ودوائر الاستفادة من نتائجه وآفاقه في المعرفة والمجتمع الاقتصادي الخ، فنحن نعتقد أن هذه المعارك في تقاطعها وتكاملها تعبد الطريق الموصل لباب تحرير الأذهان. لا نفكر هنا في موضوع ترسيخ متطلبات الإصلاح السياسي الحداثي بالطريقة التي أصبح يتداول بها في الآونة الأخيرة، حيث يتم الربط بين (برامج الإصلاح ومواجهة الإرهاب)، وذلك في سياق ملابسات الصراع الدائر اليوم في العالم. اننا نتحدث عن الإصلاح السياسي الحداثي في أفق موصول أولا وقبل كل شيء بإشكالية التأخر العام السائدة في واقعنا، ونطرحه لمواجهة مختلف صور الاستبداد السياسي القائمة في مجتمعاتنا.. ونحن نطرحه بصور وصيغ مختلفة باعتبار أن معاركنا الإصلاحية لم تنقطع طيلة تاريخنا المعاصر، ونفترض أن يعمل الجميع على تطوير هذه المعارك من أجل تحقيق أهداف الإصلاح.. إضافة إلى ذلك نحن لا نميز كثيرا في اللحظات المفصلية من التاريخ بين معارك الداخل والخارج، خاصة في وقتنا الراهن، حيث تختلط الحدود، وتنفتح المعارك على أمكنة وأزمنة ورموز لا حصر لها. وإذا كان الغرب يفكر اليوم في ضرورة حصول الإصلاح بناء على خياراته السياسية والاستراتيجية والعسكرية، فإن مشروع إصلاح ذواتنا وإصلاح قدرتنا على التصالح مع العالم، كما اشرنا آنفا تعود إلى فترة سابقة على ملابسات الصراع الحاصلة اليوم في العالم، إننا نتجه لاستكمال مهمات بدأتها أجيال قبلنا. وعلينا أن لا نلتفت كثيرا للتقابلات الحدية التي تنشئها بعض التصورات في سياق حسابات سياسية آنية، فالإصلاح مطلب مستعجل، وهو شأن داخلي، ولا يمكننا في الوقت نفسه وبالضرورة ان نفكر فيه بمعزل عن كل ما يجري في العالم بجوارنا وفي قلب جغرافيتنا. لا تنفصل إذن في نظرنا معارك المجال الثقافي والديني عن مشروع ترسيخ الحداثة السياسية في فكرنا. وفي هذا السياق، نحن نعتبر أن انتشار دعاوى تيارات الإسلام السياسي، ودعاوى تيارات التكفير والعنف في ثقافتنا ومجتمعنا، يمنحنا مناسبة تاريخية جديدة لإطلاق مجابهة نقدية أكثر حسما وصرامة، معارك يكون بإمكانها أن تكشف فقر ومحدودية وغربة التصورات الموصولة بهذه التيارات وهو الأمر الذي يتيح لنا بناء الفكر المبدع والمساهم في إنشاء خيارات مطابقة لتطلعاتنا في النهضة والتقدم.

* كاتب وأكاديمي مغربي