حبيبة قلبي

TT

أنا أتعاطى لبس النظارة ـ بلاش كلمة (أتعاطى) هذه لأنها في هذه الأيام مشبوهة ـ لكنني ألبس (العوينات) بلهجة إخواننا أهل لبنان الأخضر الذي بدأ يتحول للأصفر في هذه الأيام، والنظارة يسميها أهل نجد في لهجتهم المنقرضة: (الششمات)، وأهل الحجاز يطلقون عليها (قباقيب العمى)، أما أنا فأسميها حبيبة قلبي، التي تهديني وتجعلني أستطيع أن أفرّق بين الغث والسمين، وبين التي أكل الدهر عليها وعاف الشراب، وبين التي يا دوبك خارجة من البيضة تتغندر.

رافقتها ورافقتني ـ أي النظارة ـ وخضت معها أتفه المعارك السلميّة ردحاً من الزمن دون أن تمل هي من أنفي العزيز، ودون أن أمل أنا من عدساتها اللعينة.. ولا أسخط عليها إلاّ في ظروف معينة وذلك عندما تمطر السماء ولا يكون معي مظلّة، أو في موسم الرطوبة، أو أكون في المسبح أو البحر عندما تختلط الألوان وتتساوى الأشكال.

أتاني أحدهم وأنا أطلق عليه مسمّى: (نزغة ابليس)، وذلك من شدّة (لقافته)، وقدرته الفائقة في التأثير عليّ، وكثيرا ما لعنت اليوم الذي تعرفت فيه عليه، من كثرة ما أوقعني بالمطبات، وكاد أن ينفض جيوبي من آخر قرش صامد فيها، وذلك من حثي دائماً على الدخول في مشاريع فاشلة، والغريب أنني كلما عاهدت نفسي على أن اقطع نهائياً علاقتي به، أجدني كالمسحور أنجذب إليه لا شعورياً وأتجه (دايركت) نحو (خربطاته)، وأصبحت فعلاً مثل (البس الذي يدوّر خنّاقه).

أتاني يوماً هذا (الخنّاق) ـ أي الصديق المنحوس الذي ليس على رأسه أي فانوس ـ وقال: يا مشعل عيونك تصرع الطير الحايم من جمالها فلماذا تشوهها بهذه النظارة؟!.. فقلت له: يا أهبل، أولاً: جملة (تصرع الطير الحايم) هذه تقال في وصف الرائحة الزنخة التي لا تطاق، وثانياً: أنا أعرف وأعلم وأدرى بعيني الخافستين في نقرتين لا شبيه لهما في وجوه البشر.. فقال لي: لماذا (لا تبذحهما)؟!، قلت له: نعم؟!، قال: اقصد لماذا لا تشرّطهما وتستغني عن النظارة نهائياً، وتستطيع بعدها أن تمارس رياضة الملاكمة، وزيادة على ذلك سوف تحلا أنت في عيون (المزايين).. وعندما وصل إلى هذه النقطة (انهرت تماماً)، ووافقته رأساً وأنا مغمّض، لأن الخبيث يعرف نقطة ضعفي، وأمسكني من اليد التي (تزغزغني).

ذهبت معه وهو يقودني إلى الطبيب، وعرفت أن العملية لا تستغرق سوى عدّة دقائق، أقوم بعدها لتصبح زرقاء اليمامة أمي (بحق وحقيق).. ومن حسن الحظ أن الدكتور سألني إن كنت أقرأ بالنظارة أم بدونها! فقلت له: إنني اقرأ بدونها، فقال لي إذن بعد العملية لا بد وأن تقرأ بالنظارة، وعندما حسبتها طلعت الحكاية (هي هي)، يعني إذا شلت ثماني ساعات من النوم بدون نظارة، مع أربع ساعات (سرحان) وأحلام يقظة أيضا بدون نظارة، وقسمنا اثني عشرة ساعة على اثنين تكون النتيجة هي ست ساعات بالنظارة، وذلك عندما ألهو وألعب (واتحكرش)، وست ساعات أخرى عندما أقرأ فيها سواء الصحف أو المجلات أو الكتب أو (حسن الطالع).

وحمدت الله أنني استطعت أن أتمرد على (نزغة ابليس)، وهي من تمرداتي النادرة.. وها انذا اكتب إليكم اليوم بدون نظارتي، التي أشاهدها الآن وهي منبطحة أمامي على الطاولة، تغمز لي نصف غمزة.. في الوقت الذي أمطرها فيه بوابل من القبلات العنيفة.