ماذا سيبقى من مكسيم رودنسون بعد رحيله؟

TT

قد يكون من السابق لأوانه طرح مثل هذا السؤال. فنحن بحاجة إلى مرور بعض الوقت لكي نعرف ماذا سيبقى من هذا الفكر أو ذاك، وماذا سيطويه النسيان. ومكسيم رودنسون، الذي رحل هذه الأيام عن عالمنا، كان يقول في احد المواضع بأنه معجب بذلك الكتاب الشهير الذي أصدره المفكر الإيطالي بنديتو كروتشه تحت عنوان: ما هو حي وما هو ميت في فلسفة هيغل.وبالتالي فالزمن ينخل كل شيء ويغربله. يضاف إلى ذلك أني لا ازعم الإطلاع على كل كتابات هذا المستشرق الذي نشر عشرات الكتب ومئات المقالات عن الإسلام، والعرب، والماركسية، والصراع العربي ـ الاسرائيلي، ومنهجيات الاستشراق، وعلم الاجتماع، وتاريخ الأديان المقارنة.. الخ.لكن منذ الآن فصاعدا يمكن القول بأن بعض الأشياء سوف تبقى عنه وربما كان في طليعتها أسلوبه والتماسك المنطقي الذي تتميز به كتاباته.فصاحب (الماركسية والعالم الإسلامي) أو (الإسلام والرأسمالية) يكتب بفرنسية واضحة لا لبس فيها ولا غموض. وكان يعيب على بعض الفلاسفة ومن بينهم جاك دريدا، ذلك الإسهال اللفظي أو الثرثرة البلاغية الفارغة التي لا ترتكز على أي مضمون محسوس أو واقعي يمكن الإمساك به. أما مع رودنسون فأنت واثق انك ستصل إلى نتيجة إذا ما شرعت في قراءته ولن تذهب جهودك سدى. فهو لا يكتب لكيلا يقول شيئا!

وهناك نقطة ثانية مهمة جدا وهي: النزاهة الفكرية. فالرجل بقي يحفر في نفس الخط ويعمق نفس الموضوعات والإشكاليات طيلة حياته كلها. ولم يتذبذب كثيرا ولم ينتقل من هذا الموقع الفكري إلى ذاك على هوى الموضات الفكرية أو المصالح الانتهازية والشخصية.وهنا قد يقول احدهم: لكنه غيّر موقفه من الماركسية فانتقل من شيوعي منظَّم في الأربعينات إلى مفصول من الحزب في الخمسينات، إلى ماركسي مستقل في السبعينات، إلى خارج على الماركسية كليا في التسعينات.. وهذا صحيح.ولكن هذه النقلات لم تكن انتهازية، وإنما كانت عبارة عن تطور طبيعي لمفكر يعمّق أسئلته أو أجوبته أكثر فأكثر كلما نضج حياتيا وتقدم في العلم والمعرفة والعمر. وقد شرح هذه التطورات التي طرأت على فكره في أكثر من مناسبة وبكل صراحة وجرأة. واعتقد ان شرحه كان مقنعا. ولكنه اذا كان قد تخلى عن الجانب الآيديولوجي أو التحزّبي الضيق من فكر ماركس، فإنه لم يتخل أبدا عن بعض القوانين السوسيولوجية التي اكتشفها كارل ماركس نفسه.بمعنى آخر فإنه عرف كيف يفرز ماركس الآيديولوجي ذا الشطحات الطوباوية عن ماركس المعرفي أو العلمي. وهذا ما يتجلى في مقالة مهمة كان قد أصدرها عام 1968 تحت عنوان: السوسيولوجية الماركسية والآيديولوجية الماركسية. وبالتالي فعند ماركس أيضا لم يمت كل شيء على الرغم من سقوط الشيوعية والاتحاد السوفياتي.

ولكن المشكلة هي أن بعض المثقفين العرب يتعلقون بما هو ميت ويجهلون ما هو حيّ! إنهم لم يتوصلوا بعد إلى مرحلة التفريق بين الآيديولوجيا والشعارات الحماسية من جهة، وبين العلم الرصين والدقيق من جهة أخرى. الشيء الثالث الذي سيبقى من رودنسون فيما اعتقد هو التالي: إخلاصه للفكر العقلاني الموروث عن عصر التنوير الأوروبي واعتباره بمثابة فكر كوني. فالرجل رفض بأي شكل أن يستسلم للنزعات الطائفية أو العنصرية القومية التي سقط فيها العديد من المستشرقين والمثقفين العرب أيضا. ففي رأيه أن الجنس البشري واحد على الرغم من اختلاف أعراقه، وأديانه، ولغاته، وهناك قوانين كونية عامة تتحكم به. وينبغي أن نكتشفها من خلال المقارنة لكي نفهم الطبيعة البشرية على حقيقتها، وكذلك الآليات الداخلية للمجتمعات البشرية. اما موقفه من الصراع العربي ـ الإسرائيلي فقد شكل مجده الفكري ورفعه إلى مرتبة الكبار في التاريخ الفرنسي من أمثال: فولتير، وفيكتور هيغو، وإميل زولا، وجان بول سارتر، وجان جنيه، وآخرين قليلين. صحيح انه انتهى به الأمر إلى ضرورة الاعتراف بوجود دولتين في فلسطين، الأولى يهودية والثانية عربية، لأن دولة إسرائيل أصبحت حقيقة واقعة على الرغم من كل شيء. لكنه في حياته كلها لم ينكر الحقيقة التاريخية ولم يحاول تزيينها كما يفعل عشرات المثقفين في الغرب من يهود او غير يهود. واكبر دليل على ذلك كتبه التالية: اسرائيل، ظاهرة استعمارية، إسرائيل والرفض العربي، شعب يهودي أم مشكلة يهودية؟ ويبدو انه تعرض للتهديد أكثر من مرة بسبب مواقفه هذه، لكنه لم يتراجع. وهذا ما سيبقى منه في نهاية المطاف. فقد جمع بين التبحر في العلم وشرف الفكر والثبات على المبدأ. وهي أشياء قلّ أن تجتمع في شخص واحد. لكن رودنسون في أواخر حياته كان يطالب المثقفين العرب بأن يعاملوه بالمثل. كان يقول بما معناه: بما أني ضربت عرض الحائط بانتمائي اليهودي الطائفي وانتصرت للحق الفلسطيني وتكبدت المشاق بسبب ذلك، فإني أطالبهم أيضا بأن يقفوا موقفا نقديا من أنفسهم، بأن يتخلوا عن عصبياتهم القومية أو الدينية، بأن يوسعوا عقلهم قليلا ويحترموا الآخر.. فهم ليسوا منزهين عن العيوب والحق ليس فقط على الاستعمار والإمبريالية والصهيونية وإنما على العلل الداخلية أيضا. وبالتالي فليكنّس كل واحد أمام بيته قبل أن يتهم الآخر، وإلا فإن التعايش سوف يكون مستحيلا.

أما فيما يخص علم الاستشراق فقد ساهم رودنسون في إخراجه من الدائرة الضيقة والعقيمة لتاريخ الأفكار التقليدي ومنهجيته التي عفا عليها الزمن، وهي المنهجية التي تدرس الأفكار وكأنها معلقة في السماء أو منفصلة عن الحيثيات الواقعية التي تحيط بها. وادخل إلى ساحة الاستشراق مناهج العلوم الإنسانية كعلم الاجتماع، والتاريخ والانثربولوجيا، والاقتصاد.. وقال بأن المسلمين أناس مثلهم مثل غيرهم مشروطون بالظروف المادية والاجتماعية وليس فقط العقلية اللاهوتية أو الدينية. وانتقد هنا بعض تيارات الاستشراق التي تحاول سجن المسلمين في عقلية معينة أو خصوصية مطلقة لا فكاك منها. وهي نظرة عنصرية في الواقع بشكل صريح أو ضمني لأنها تحاول إثبات أن المسلمين لا يمكن أن يتقدموا لأنهم مسلمون، وكذلك العرب. وبرهن رودنسون على أن التقدم والتأخر عملية معقدة ومرتبطة بعوامل عديدة كالظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية دون أن يهمل العامل الديني أو الآيديولوجي.

وبالتالي فالتقدم ممكن إذا ما تغيرت هذه الظروف أو تحسنت. وهو شيء حاصل وان بشكل بطيء وتدريجي وأحيانا غير ملموس أو غير محسوس به. ولكنه في رأيي، ككل الماركسيين، كان يعطي دائما الأولوية للبنى التحتية على البنى الفوقية أو للعوامل الاقتصادية والاجتماعية على العوامل الآيديولوجية الفكرية. من هذه الناحية يبدو لي فكره محدودا إلى حد ما أو غير عميق بما فيه الكفاية. فالواقع أن العامل الفكري أو الآيديولوجي قد يكون حاسما في بعض الأحيان دون أن يعني ذلك التقليل من أهمية العوامل المادية. فتجربة التاريخ تعلمنا إن الحركات التغييرية الكبرى ابتدأت بالكلمة أولا، بالفكر، ثم انعكست على الواقع المحيط كله فجددته إذ نفخت الروح فيه. ومن هذه الحركات الإسلام مع القرآن، والإصلاح الديني مع خطابات مارتن لوثر الحامية في القرن السادس عشر، ثم التنوير والفلسفة المثالية الألمانية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر.