عصر الضمير

TT

في هذه الأيام التي انكشف فيها ما جرى من الانتهاكات والمهانات في سجن أبو غريب، علينا ان نتذكر هذه الحقيقة. اولاً ان من قام بهذه الأعمال كانوا عدداً قليلاً جداً بالنسبة لمجموع العساكر الأمريكان الذين تصرفوا في حدود مهمتهم العسكرية، وفي كثير من الأحيان بصورة انسانية. ثانياً ان اكثر ما جرى من انتهاكات وقع ضمن التعليمات والتدريبات التي تلقتها هذه الزمرة من البنتاغون. يجب محاكمة الحكومة الأمريكية وليس هؤلاء الافراد. ولكن كما قال شكسبير، اننا نتذكر اعمال الشر وننسى اعمال الخير. ففي الاسبوع الذي حكموا فيه على جندي بالسجن عما قام به من جريمة حرب، حكموا ايضاً على جندي آخر، العريف كاميلو ماجيا، بالسجن لرفضه الاشتراك في الحرب في العراق. دافع عن نفسه في المحكمة بقوله ان ضميره يأبى عليه ذلك. لم تلتفت المحكمة لدفاعه لأن القاعدة في الغرب هي انه اذا كان ضميرك يمنعك من حمل السلاح فيجب ان تصرح بذلك مقدماً ولا تدخل الجيش.

يعود تاريخ هذه الفكرة إلى الحرب العظمى عندما رفض عدد من الانجليز الاشتراك في الحرب لأنهم اعتبروها مناقضة لضميرهم كان منهم اللورد بروكوي وبرتراند رسل. تلقوا شتى الاهانات والاتهامات بالخيانة والجبن. رموهم بالحجارة والقاذورات. ثم حكم عليهم بالسجن. ودخلوا السجن بفخر. ومن حينها أصبح حق الرفض الضميري لحمل السلاح من حقوق الانسان في أوروبا. وبدأ عصر الضمير. ففي نهاية الحرب العالمية الثانية، رفضت محكمة نورنبرغ الدفاع التقليدي، وهو اطاعة الأوامر. القاعدة الآن، اذا كان الأمر يتناقض مع ضميرك فمن حقك بل من واجبك ان ترفض اطاعته. اتذكر اثناء عملي مع الاذاعة البريطانية، كان من حقنا ان نرفض قراءة التعليق أو الحديث اذا تناقض مع ضميرنا.

قبل بضعة أشهر لاحظت احدى الموظفات الشابات في المخابرات البريطانية ان تصريحات حكومتها بشأن العراق تكذبها المراسلات السرية التي مرت بيدها فأفشت الأمر للصحافة تجاوزاً لقسم اليمين بالسرية الذي قسمت به. وادى افشاء هذه المعلومات السرية الى زوبعة سياسية. اعتقلت واحيلت للمحاكمة. دافعت عن نفسها بالقول ان ضميرها أبى عليها أن تسمح بهذا الكذب والمغالطة فكشفت ذلك للجمهور. قضت المحكمة لصالحها وامرت بالافراج عنها. يشكل هذا القرار سابقة قضائية الآن تسمح لأي موظف بعصيان الأوامر والحنث باليمين وافشاء اسرار الدولة حيثما أمره ضميره بذلك.

الحقيقة ان هذا ما جرى في فضح ما وقع من جرائم في أبو غريب. كان هناك من الجنود من عز عليه ان يترك ذلك يمر بدون كشفه للعالم، فسرب التصاوير للصحافة العالمية. الحكومات ترتعد الآن خائفة من اصحاب الضمير وكاميراتهم وتصريحاتهم ووثائقهم. أليس هذا ما كشف للجمهور الامريكي فضيحة ووترغيت واسقط الرئيس نكسن؟ بالطبع ما كان ذلك قاصراً على الصحافيين.

الادباء والفنانون والعلماء يشاركون في هذه الموجة من قوة الضمير. في الاسبوع الماضي فقط، نال المخرج الامريكي مايكل مور أعلى جائزة في مهرجان كان للفيلم الساخر الوثائقي الذي اخرجه لفضح رئيسه جورج بوش والفئة الحاكمة في واشنطن.

يقول البعض ان كشف الفضائح اصبح تجارة رائجة. نحمد الله ان أصبح للضمير مثل هذه القوة الشرائية. وفي يوم غد، سأتناول فصلاً من فصول هذه القوة في اسرائيل.

www.kishtainiat.com