تنوير المشروطة

TT

لو كانت ايران اكثر حظا لحظيت بالملكية الدستورية منذ اوائل القرن الماضي اثناء ما عرف في تاريخ الفكر بـ«المشروطة» التي تنسب للميرزا النائيني الذي سعى مع كوكبة من المتنورين لتقييد سلطة الفقيه والحاكم معا.

ومنذ ذلك الوقت جرت تحت الجسور مياه ودماء كثيرة وغزيرة، وذلك الشعب الحيوي يثور ويغير ويبدل ويعود الى الزاوية الصعبة اياها لأن الذي يحتاج الى تغيير ليس شكل النظام السياسي وحده، بل المنظومة الفكرية والعقائدية التي عاشت قرونا طويلة دون تجديد يواكب ايقاع العصر، ويحررها من التراكمات التاريخية التي اعقبت الغيبة.

لقد كان حسين الخميني جريئا، ودقيقا، وهو ينتقد جده الامام على صفحات باري ماتش الفرنسية في اغسطس (آب) الماضي ويقول: ان افكاره عن ولاية الفقيه لم تعد صالحة لهذا الزمان، وفي ذاك الحديث ايضا اعطى رؤية قاتمة عن مستقبل الاصلاحيين اثبتت الانتخابات الاخيرة صوابه، وما على الذين انتقدوه ـ آنذاك ـ إلا ان يعتذروا، ويعترفوا بأنه اكثر معرفة بدهاليز السياسة الايرانية منهم، فمن عاش مع الخميني الجد في النجف والمنفى الفرنسي وقم ثم طهران بعد انتصار الثورة لا بد ان يكون قد سمع وعرف الكثير مما لا يتاح لغيره. وقد نسي نقاد حسين الخميني حينها كل ما قاله لستيفاني مارتو عن مخاطر استراتيجية المتشددين واخذوا عليه اعترافه بأنه كان يحب روسو وفولتير وبريجيت باردو ولا عيب في ذلك، ففي السبعينات التي وصل فيها الخميني الحفيد مراهقا الى ضواحي باريس لم تكن باردو ما هي عليه الآن وما كانت تركت صحبة البشر واستبدلتها بالحمير والفقمة والبقر. اما روسو وفولتير فمن ذا الذي لا يحبهما؟ خارج دائرة اولئك الذين يكرهون كل نور وتنوير مهما كان مصدره.

وقد فوجئت اثناء العودة الى ذلك الحديث في الارشيف ان حسين الخميني كان صديق طفولة لعبد المجيد الخوئي الذي تم نحره في النجف على يد بعض المتشددين الذين لا يريدون خيرا للعراق ولا لايران معا، فأي تغيير في طبيعة المؤسسة السياسية والدينية يطيح بالمكاسب والامتيازات التي يعيشون عليها واجدادهم من قبلهم منذ دهر طويل.

لقد قرأت حديثا لاحمد الكاتب عن تجديد الفكر السياسي الشيعي والتطورات التي طرأت عليه من الشورى الى ولاية الفقيه ولاحظت انه مثل عشرات غيره يرى ان الاتفاق على حل عصري لولاية الفقيه يجب ان يسبق اي تجديد في المؤسسة السياسية، وما لم يتم ذلك سيستمر التجاذب، ويظل للمتشددين اليد العليا والقدرة الموروثة على اجهاض اية حركة تنوير وتغيير.

اما الذي وقف بتركيز علمي دقيق عند «مشروطة النائيني» فهو الدكتور توفيق السيف الذي افرد لها اكثر من فصل واشار اليها في اكثر من كتاب لاهميتها في تطور الفكر السياسي الاسلامي في ايران وغيرها من البلدان المجاورة.

وتنبع اهمية مشروطة الميرزا النائيني من شجاعة منظرها وعقلانيته فهو القائل في كتابه المرجعي «تنبيه الأمة وتنزيه الملة»: «الحكومة الاسلامية في الاصل شورى، وحق من حقوق عامة الناس. فالحاكم العادل لا يوجد وهو كالعنقاء، واعز من الكبريت الاحمر، وكذلك الائمة المعصومون غير موجودين في زماننا».

ويترتب على منطق من هذا النوع تقييد جميع السلطات المطلقة، سواء كانت لحكام او لفقهاء والعودة الى الناس لممارسة ذلك الحق المعطل من حقوقهم، وهو ان يكون لهم رأي في شكل النظام الذي يحكمهم وصوت في اختيار رجاله ونسائه ومسيري شؤونه.

وكما يعود الفكر العربي دوما الى عصر التنوير المجهض يعود الفكر الايراني من حيث الجوهر هذه الايام الى المشروطة النائينية للاستفادة من افكارها في تقييد سلطة الفقهاء، وترسيخ جمهورية دستورية لا وصاية لاحد على اجهزتها التنفيذية غير من ينتخبه الناس، وبانتظار عبور ذلك الجسر بعد مخاض صعب لا يملك الايرانيون الا ان يتحسروا كالعرب على الفرص التاريخية الضائعة التي كانت ستوفر عليهم لو اقتنصوها الكثير من العذاب المجاني والمعاناة المستمرة، والركض خلف السراب.

[email protected]