دنيا الفضائح السياسية

TT

خر ساقطا في الأسبوع الماضي نجم آخر من نجوم السياسة البريطانية الذي أمل له الجميع مستقبلا زاهرا واعتمد عليه توني بلير كيد ضاربة في معاركه السياسية. اهتزت الأوساط البريطانية للأفول المفاجئ للمستر بيتر مندلسن، الوزير لأيرلندا الشمالية بعد ثبوت فضيحة توسطه في قضية منح الجنسية البريطانية للأخوين الهنديين براكاش وسريشاند هندوجيا بعد تبرعهما بمبلغ مليون باوند استرليني لمشروع القبة الألفية في غرينتش، ذلك المشروع المشؤوم الذي اوقع المسؤولين في سلسلة من المطبات والنكسات. لم يدخل في جيبه شيء من هذا المليون فقد كانت المنحة لغرض اقامة جناح روحي في هذا المشروع الحكومي. ويشك في ان تكون وزارة الداخلية قد منحت الأخوين الهنديين الجنسية بناء على تدخله أو تأثيره. انحصرت الفضيحة التي سودت وجهه واضطرته الى تقديم استقالته في نفيه للحكاية ثم انكشاف كذبه في النفي الذي اعطاه للبرلمان.

ما يلفت النظر ان هذه الفضيحة الأخيرة جاءت كحلقة اخرى من مسلسل فضائحي يمتد الى الستينات يوم اضطر وزير الدفاع المستر بروفيومو لتقديم استقالته الى رئيس الحكومة عندئذ، هارولد مكملان بعد الكشف عن علاقته بكرستين كيلر ومخادعته ايضا للبرلمان ولرئيس الوزراء في اصراره على براءته. بيد ان هذا المسلسل الفضائحي ما فتئ ان اكتسب قوة زاخمة ومتسارعة في وتيرتها في السنوات الأخيرة. سقط جرمي ثورب من رئاسة حزب الاحرار بعد انفضاح علاقته اللواطية بشاب موديل. ثم افل نجم ونستن تشرشل الشاب، حفيد الزعيم تشرشل بعد ان اعترف بعلاقته الجنسية مع امرأة اخرى غير زوجته، وكان ديفيد ملور ضحية اخرى لعلاقة جنسية باحدى بنات الهوى انهت حياته السياسية وحولته من وزير مسؤول الى مجرد شخصية اذاعية، وجونثان اتكنز اخذ طريقه من الوزارة الى السجن، ونيل هملتن تخبط بمشكلة اخرى يوم كشف محمد الفايد عن رشوته له بفضيحة المظاريف السمراء Brown Envelopes. أما وزير البيئة، مايكل ميتشر فقد اجهز عليه وعلى مستقبله السياسي تهالكه في امتلاك العقارات واستغلال مواردها. واخيرا فقد السياسي والروائي جفري آرتشر مستقبله في حزب المحافظين واضطر الى الانسحاب من الترشيح لبلدية لندن بعد اتهامه بعلاقة مع عاهرة محترفة.

ما الذي يكمن وراء كل هذه الفضائح التي دمرت هؤلاء الساسة ورجال الدولة؟ أول ما يخطر الى الذهن هو ان الجنس كان سبب البلاء في معظمها، بما يذكرنا بالمثل الفرنسي «فتش عن المرأة»، ولو ان الضرورة تقتضي بالنسبة لجرمي ثورب ان نحرف المثل قليلا فنقول «فتش عن الغلام». وهذا امر يصور لنا مدى قوة الغريزة الجنسية التي تجعل الرجل يضحي بمستقبله وهيبته وكرامته في الاستجابة لنوازعها. ولا جديد في هذا الأمر، فقد ضحى انطونيو بالامبراطورية من اجل كليوباطرا.

العنصر الثاني الذي يلفت النظر في هذه الفضائح النمطية في بريطانيتها، انها تفجرت من نقطة الكذب. يعتز الانجليز، و (أميل الى تأييدهم في ادعائهم هذا) في انهم اقل الشعوب ممارسة للكذب. انهم يكذبون ولكن لهم طريقة فذة في ذلك، وهي اخفاء الحقيقة وعدم ذكرها، وبخلاف ذلك فهم قلما يجيبونك صراحة بكذبة، ويتضايقون كثيرا ممن يفعلون ذلك. وهو من عوامل نظرتهم السلبية نحونا. ويزداد تضايقهم هذا ويتحول الى ازمة قومية عندما يكذب سياسي على زملائه في البرلمان أو في الوزارة. اعرب مكملان علنا عن هول الصدمة التي شعر بها عندما اكتشف ان بروفيومو قد كذب عليه عندما اكد له براءته عن اي علاقة بكرستين كيلر. قدم مكملان استقالته اثر هذه الصدمة فلم يعد يعرف كيف يمكن له ان يعمل بين ساسة يكذبون.

وهذا ما وقع به بالضبط بيتر مندلسن بعد ان نفى مكالمته التليفونية مع وزارة الداخلية. ثم فضحت الصحافة كذبه في ذلك. لكلا هذين العنصرين، الجنس والكذب، بعدهما الانغلوسكسوني القائم على التربية الدينية البيوريتانية. قلما يعبأ الآخرون بالمغامرات الجنسية لزعمائهم. بل هناك من يعتبرونها جزءاً من مرجلتهم وبلائهم وشعبيتهم. في اميركا اللاتينية يتباهى المشرحون بذلك ويطوفون المنطقة بصحبة عشيقاتهم الفاتنات لكسب اصوات الناخبين. الانجليز ليسوا من هذه الفصيلة. ومع ذلك فإنهم اخذوا يتماشون مع روح ما يسمى الآن بالثورة الجنسية فراحوا يغضون النظر عن خطايا رجالهم (ونسائهم) ولكن عقدة الكذب ظلت مستحكمة. النصيحة الشائعة الآن: اذا افتضح امرك فاعترف ولا تحاول الكذب. ولكن يظهر ان للكذب ايضا فتنته مثل الجنس. وبها وقع مندلسن وكل هؤلاء السادة الذين ضحوا بمستقبلهم، لا على مذبح الجنس والهوى وانما على مذابح الكذب والمراوغة.

قلنا ان بريطانيا تشهد الآن سلسلة من الفضائح التي اودت بأصحابها. ولكن أيشير ذلك حقا الى تدهور في اخلاقياتها؟ ربما نواجه هنا مشكلة مشابهة لمشكلة السرطان الذي يبدو من الاحصائيات وكأنه قد استفحل بشكل لم تعرفه البشرية من قبل. ولكن الظاهر ان كل ما هناك هو اننا اصبحنا قادرين الآن على اكتشافه في حين صعب ذلك على اجدادنا. نقول على غرار ذلك ان الساسة كانوا قادرين بالأمس على اخفاء مغامراتهم وجرائمهم وسرقاتهم فلم تسجل عليهم. اما اليوم فهناك هذا العفريت الرهيب: الصحافة ووسائل الاعلام المتطورة. فقد كانت الصحافة الأمريكية هي التي كشفت فضيحة ووترغيت وظلت تلاحق نكسون حتى اجبرته على الاعتراف والاستقالة. حدث مثل ذلك بالنسبة لفضيحة كلنتون ومونيكا، وبالنسبة لكل هؤلاء الرجال الذين اشرنا اليهم سالفا. لم يستطع ديفيد ميلور ان يتستر على مغامرته الجنسية لأن المخبرين استعملوا وسائل انصات متطورة سجلت عليه حتى انفاسه.

لم تكن هذه الاجهزة متوفرة في العشرينات. وعليه لم تستطع الصحافة ان تثبت امام المحكمة ان لويد جورج قد زنا وانجب ولدا بالزنا، فربح دعوى العيب ضدها. كل ما يلزم في ايامنا هذه هو ان تطلب المحكمة فحص مورثات الطفل والأب لتحسم الجدال. المشكلة هي ان التطور العلمي اصبح اسرع بكثير من تطور عقولنا، فظلت المصارحة بالحقائق متخلفة وصعبة.

ولكن الانجليز يواجهون مشكلة اخرى، وهي ان الكثيرين من المعدمين والموسرين يعشقون جنسيتهم، الأمر الذي جعل هؤلاء الشقيقين الهنديين يجودان بمليون باوند للحصول على الجنسية البريطانية. فعل مثل ذلك، وان كان على قدر اقل بكثير، الشقيقان الفايد. ولو رسمنا خطوط اللجوء والهجرة في أوربا لوجدناها تتجه جميعا نحو ميناء دوفر ومطار هيثرو. يعامل معظم اللاجئين في فرنسا والمانيا وايطاليا واسبانيا كمجرد محطات في الطريق الى بريطانيا. يحدوهم جميعاً حلم العيش في هذه الجزيرة المفلسة واكتساب جنسيتها. الهيام والهوس بهذه الجنسية وبجواز سفرها يبعث على الضحك والسخرية في كثير من المواقف. نحن نعرف ان كثيرا من الانجليز ما زالوا يتصورون بلادهم امبراطورية. ليس في ذلك عجب. العجب كل العجب هو ان الآخرين ايضا يتصورونها كذلك. الظاهر ان هناك وراء الحقد على التاريخ الاستعماري لبريطانيا، حب واعجاب كبير بأهلها، وهو شيء يشارك فيه ايضا الأوروبيون الآخرون. لا شيء يحلو على لسانهم كقولهم: انني انجليزي. يقولون ذلك من دون ان يفطنوا الى أن الانجليز يعطونهم جواز سفرهم من دون ان يعطوهم هذه الصفة، فيبقون ينظرون اليهم كبريطانيين وليس كإنجليز، والفارق كبير.