«القاعدة» ومحاولة لمواجهة مفتوحة..

TT

يبدو أن الخلايا الإسلاموية المتطرفة في السعودية تحاول من خلال عملية الخبر الأخيرة أن تعيد ترتيب أولوياتها، وتعيد رسم ملامحها بشكل يكسر عنها الطوق الأمني المفروض عليها، ويجعلها تتجاوز الأزمة التي تعيشها تنظيميا، من خلال تكثيف عملياتها بشكل يوضح أنها ما زالت فاعلة وقوية وتستطيع أن تؤثر في مجريات الساحة الداخلية، لا مجرد لاعبٍ هامشي لا يملك سوى المشاغبة هنا أو هناك.

عملية ينبع، وما تلاها من قتل لمواطن ألماني في الرياض، وعملية الخبر الأخيرة، كل هذه العمليات لا يمكن قراءتها بمعزل عن واقعها السياسي والاقتصادي، ولا يمكن اعتبارها ردود فعل من أناس محاصرين يلفظون أنفاسهم الأخيرة. ولا محاولة انتحار جماعية تنهي فصول المسرحية الدموية، لينتهي معها حمام الدم المتواصل، وإنما هي عمليات يريد منفذوها أن يوجهوا من خلالها عدة رسائل وللعديد من الجهات في الدولة وخارجها، ولعل أهم ما يُقرأُ من هذه العمليات التالي:

أن «القاعدة» والمتعاطفين معها بعد الضربات الأمنية التي وجهت لهم، وما تكبدوه من خسائر مادية ونفسية، راحوا يحاولون أن يثبتوا للرأي العام وللحكومة أنهم ما يزالون فاعلين ومؤثرين، وأن بمقدورهم أن يلحقوا الضرر بالدولة ومصالحها، كما ألحقت الدولة بهم الضرر، رافعين تحديهم للدولة لدرجته القصوى، وواضعين أنفسهم كندٍ للدولة، وكغريم لها، لا يقل عنها مقدرة على الفعل.

إثبات الوجود هذا يهدفون منه إرباك الدولة وأجهزتها الأمنية، وإضعافَ معنويات أفراد الأجهزة الأمنية، وهو في ذات الوقت دفع معنوي لأنصار القاعدة وخلاياها النائمة والمتعاطفين معها، وتشجيع لكل محازبيها على مواصلة العمل، كون هذا العمل آتى ثماره وأوجع الدولة من حيث لا تحتسب، حسبما تقدّر القاعدة.

ويبدو الأمر للقاعدة كما يلي: إثبات الوجود هذا تأتى من خلال توسيع دائرة الصراع جغرافيا. فالصدامات لم تنحصر في وسط المملكة، في الرياض والقصيم وحسب، بل امتدت لينبع وجدة ومكة المكرمة والمدينة المنورة والمنطقة الشرقية، أي أن مناطق المملكة باتت الآن ساحة مفتوحة للمواجهة. رامين من خلال ذلك لتشتيت وبعثرة الجهود الأمنية والخروج عليهم في أماكن لا يتوقعونها.

وللمراقب أن يلاحظ هذا التحول السريع في العمل من ينبع إلى الرياض إلى الخبر، وما بين هذه المدن من مسافات جغرافية شاسعة. هذا التوسيع الجغرافي لازمه توسيع نوعي في طبيعة الأهداف المستهدفة. فقديما كان الشعار المرفوع «إخراج المشركين من جزيرة العرب» ينصب على استهداف العسكريين الأمريكيين، ثم توسع ليشمل المدنيين الأمريكيين، وبعدها المدنيين الغربيين وتحديدا البريطانيين، لتتسع الدائرة بعدها لتشمل حتى الألمان، وفي عملية الخبر الأخيرة استهدف الإرهابيون أشخاصا من أكثر من 10 جنسيات مختلفة ممن يسمونهم بـ«المشركين والصليبيين»، إضافة لعدد من السعوديين والمسلمين العرب أيضا، ما يعني أنه لم يعد هنالك من هو مستثنى، طالما أن «الضرورات تبيح المحظورات»، وطالما أن سلاح التكفير بإمكانه أن يبرر قتل أي شخص بدعوى مخالفته لشيء من السنة أو موالاته لأعداء الإسلام أو تعاونه مع الدولة أو حتى لإسباله ثوبه وحلقه للحيته!.

إثبات الوجود وتوسيع مسرح الأحداث رافقه توجيه ضربة تحذيرية، تمثلت في ضرب مبنى المرور العام في الرياض، وهو المركز الذي اعتبرته «القاعدة» مقرا لقوى الأمن الداخلي التي تتعقب من تُسميهم بـ«المجاهدين»، وأرادت منه توجيه رسالة تحذير قوية لأفراد قوى الأمن لتثنيهم عن ملاحقة أفراد التنظيم والقبض عليهم، لتضع أرواحهم في خطر، كما هي أرواح المطلوبين للدولة في خطر أيضا. هذه المعادلة التي حاولت «القاعدة» لم يُكتب لها النجاح، بل على العكس أدت لنقمة شعبية مردها أن المستهدفين هم مواطنون «سعوديون»، من ذات البلد، وأن العملية طالت مواطنين عاديين من خارج السلك العسكري أيضا، ولم تقتصر أضرارها على الهدف الموجهة ضده. ولذا لاحظنا أن خلايا القاعدة عمدت لتبرير هذا الحادث بمختلف التبريرات، وعمدت بعده لعمليات استهداف وقنص مباشر لعناصر من قوى الأمن عند نقاط تفتيش في أكثر من موقع.

ضمن هذا السياق التنظيمي أتت عملية الخبر، كفاتحة لعمليات قد تأتي وخصوصا بعد التحذير الذي أطلقه عبد العزيز المقرن، احد ابرز نشطاء القاعدة في السعودية، والذي دعا فيه لحرب شوارع ومواجهة مفتوحة ضد الدولة.

في هذه العملية، لم يكن الهدف مجرد القتل وإثبات الوجود وحسب، بل تهديد مصالح البلاد الاقتصادية، وخصوصا عندما تُستهدف مقارٌ لها علاقة بصناعة النفط الذي هو عصب الاقتصاد السعودي. هذا الاستهداف سيحرمُ المملكة من الاستفادة من الخبرات الأجنبية، وسيجعل كثيرا من المختصين والاقتصاديين يترددون في القدوم للبلاد بسبب وضعها الأمني، فضلا عن مغادرة كثير منهم لها، مما سيقود ـ في حال مواصلة هذا النهج ـ لتثبيط المستثمرين والشركات الأجنبية من الاستثمار في السعودية خوفا على رعاياها.

الخبر أيضا كمدينة لا يمكن أن نغفل خصوصيتها الاقتصادية. فهي تقع في المنطقة الشرقية الغنية بالنفط، وهي من المدن المنفتحة التي يقطنها عدد كبير من الغربيين العاملين في شركات الغاز والبترول والكيميائيات، إضافة لعدد كبير من الوافدين العرب والأجانب، فضلا عن كونها مدينة ساحلية على الخليج لها موقعها السياحي المميز، وعلى مشارفها يقعُ جسر الملك فهد الذي يصلها بالبحرين. كل ذلك يجعل منها منطقة مهمة يمثل اللعب بالنار فيها تهديدا لأمن السعودية ككل، وليس المنطقة الشرقية وحسب. لأن أي اضطراب أمني سيلحق بها، سيؤثر على المدن المجاورة، وحركة الصناعة فيها، ما يعني التأثير على اقتصاد المملكة ككل.

إن اللعب بالاقتصاد لعب بالنار، وهو يمثل خطا أحمر لا يجوز المساس به، لأن مضاره لن تقتصر على الحكومة وحدها ـ كما يتصور الإرهابيون ـ بل ستمتد لتشمل الشعب بجميع قطاعاته وخصوصا المعوزين منه والفقراء.

يبدو أن عملية الخبر الإرهابية لن تكون الأخيرة، ويبدو أن «القاعدة» ومحازبيها مصرون على مواصلة إرهابهم وجنونهم، وإرهابٌ كهذا ينبغي للدولة والشعب أن يقفا ضده لا بالسلاح فقط، ولا بالشجب والإدانة والخطب المكرورة، وإنما عبر استراتيجية وطنية شاملة، تقوم على أساس مصالح البلاد العليا، بشفافية تامة، وتعاون وتنسيق بين الشعب والحكومة، لأن المعركة ليست موجهة ضد طرف دون آخر، بل الجميع بات مهددا الآن، والجميع بات مطالبا أكثر من أي وقت مضى بموقف حازم عقلاني، لا مجرد انفعالات وردود فعل آنية لا تغير من الواقع المعقد شيئا.

كثير من الأولويات يجب أن تعاد صياغتها، وكثير من النقد الفكري والاجتماعي... نحتاجه، ودون أن تتوافر الشجاعة الأدبية والعملية للإقدام على ذلك، سنجد أنفسنا محاصرين بلجة من العنف الدموي لن يكون بمقدورنا أن نخرج منها سالمين.

*كاتب سعودي