هل يبحث العراقيون عن هوية؟

TT

يحتل مفهوم الهوية اليوم مساحة واسعة في الخطاب الفكري والسياسي وعلى نطاق محلي وعالمي، واخذ الحديث عنها يقترب بصورة متلازمة مع طروحات صراع الحضارات وموت الآيديولوجيات من جهة والتعددية والديمقراطية وحقوق الانسان من جهة اخرى، كما اخذ الاهتمام بها يتعدى اليوم حدود وحجم الاهتمام بالعمل والتطبيق والانجاز على مستوى الممارسة العملية لتوكيد الهوية وتعميق روح المواطنة التي تقوم عليها اعادة انتاجها من جديد وحمايتها من احتواء الآخر.

ان الارتياب من تفكك الهوية وضعف روح المواطنة يعود في كثير من الاحيان الى عدم الوعي الاجتماعي بها، وضعف آليات الدفاع الجمعي عنها، وعدم القدرة على التعاطي مع الآخر المختلف بشكل ديمقراطي، وذلك بسبب ما ينتابها من عجز واحباط عن اقامة التوازن بين الأنا والآخر، وبخاصة في اوقات الازمات والتحديات المصيرية كما هي في عراق اليوم، الذي يمر بمرحلة انتقال صعبة ومعقدة بعد سقوط النظام الدكتاتوري القمعي ويتعرض الى تحديات وردود افعال مختلفة وهواجس عميقة من الخوف المركب على الهوية، بحيث يتعدى ذلك الى الحديث عن أزمة هوية وانقسامها. غير ان الخوف على الهوية هو ليس من ذات الهوية، بقدر ما هو من خارجها، لأنها نتيجة اعراض لواقع موضوعي وعلاقات اجتماعية تتداخل فيها عوامل الزمان التاريخي بالمكان الجغرافي لتكون تركيبة مجتمعية لها مظاهرها وخصائصها المختلفة، التي أثرت بعمق في تشكيل نمط الثقافة وسمات الشخصية في العراق.

الهوية هي حالة ذهنية او ثقافية تتكون من طرائق التفكير والعمل والسلوك الجمعي، تجمع بين انتماءات متعددة وتمنح افراد المجتمع مشاعر وطنية مشتركة تتصف بالتمايز والشمول والاستمرارية وتوحدها في وحدة من العناصر المادية والاجتماعية والنفسية التي تمنحهم الاستقرار والطمأنينة، بحيث يصبح المجتمع (الوطن) متعدد الانتماءات للفئات والجماعات الاثنية والدينية والسياسية، ولكنه موحد الولاء للوطن.

كما ان وحدة الهوية مرهونة بالتطور الاجتماعي والثقافي والسياسي. ففي المجتمعات الديمقراطية يتجاوز الافراد حدود انتماءاتهم الى جماعاتهم وطوائفهم الى المجتمع المدني ويرفعون اليه مشاعر الولاء، لأن الديمقراطية تعنى بتشكيل هوية وطنية واحدة تكون منطلقا للتعايش الحضاري والتكامل الثقافي بين مختلف الطبقات والفئات الاجتماعية.

اما في عراق اليوم فما زالت الانتماءات الاثنية والقبلية والطائفية تستمد وجودها من الجماعات الصغرى والفرعية التي تعتمدها في الهيمنة على المجتمع. فمن الملاحظ ان الولاء للقبيلة والطائفة والمحلة يظهر بين الجماعات ذات الثقافة التقليدية والنزعة الأبوية ـ البطريركية والقيم والعصبيات العشائرية، حيث يكون ولاء الفرد للقبيلة او الطائفة اشد واقوى من ولائه للدولة والوطن، مع ان الولاء للجماعة الفرعية يتعارض تماما مع الولاء للوطن، وان الاعتزاز بالقبيلة يتحول الى قبلية والاعتزاز بالطائفة يتحول الى طائفية . وهذا يشير الى ضعف الاندماج الاجتماعي بين الجماعات الاجتماعية المختلفة وعدم قدرتها على التوحد في هوية وطنية واحدة تحقق الامن والاستقرار والتعايش السلمي فيما بينهم، بحيث تصبح النظرة الى الآخر ذات بعد واحد. وهنا يكمن خطرها والخطر الذي يهددها من جراء تقديس الهوية او المبالغة فيها وتضخيمها وجعلها حالة تربص ودفاع مستمر عنها، وفي ذات الوقت، العجز عن مجابهة الآخر بالتفاهم والحوار.

ان ازمة الهوية او تأزمها هي قبل كل شيء ازمة حرية وازمة وعي بها وازمة تفاهم وحوار مع الآخر، وبمعنى آخر هي ازمة مواطنة لم تتبلور وازمة دولة لم تكتمل ويتم نضجها بعد، وازمة نظام ما زال يتجاوز على حقوق المواطن وانسانيته. وهي تدعونا الى ان نبحث عن مواطن الخلل في البنية الفكرية والمجتمعية والسياسية التي ساهمت في تشكيلها وان نفككها ونبحث عن الرواسب التي ساعدت على نموها وما عاناه العراق من الدول التي احتلته قرونا عديدة وجعلته مسرحا لصراعاتها، وكذلك ما خلفته البيئة الصحراوية والثقافة البدوية التغالبية والنزعة الأبوية ـ الاستبدادية وغيرها من العوامل التي شكلت بنيات انقسامية سببت ميلا الى التعارض الجدلي والتناقض بين الفكر والممارسة والتداخل بين قيم البادية ـ الريف ـ المدينة في جغرافية العراق السياسية، التي شجعت السلطات الاستبدادية واعادت انتاجها بأشكال محوّرة بما يتلاءم ومصالحها واهدافها، وهو ما عمل على تزايد حدة الاحتراب والتناشز الاجتماعي وتقوية روح الانتماء الى القبيلة والطائفة والمحلة والمنطقة على حساب المنافسة الديمقراطية.

ان تاريخ الوعي الانساني هو تاريخ الوعي بالذات ومعرفتها وليس الدفاع عنها او جلدها، لذلك يصبح من الضروري ونحن نمر بهذه المحنة العصيبة دراسة هذه الازمة المجتمعية والكشف عن جوانبها الايجابية والسلبية وتحليلها سوسيولوجيا لفهم البنى الفكرية والمجتمعية والسياسية التي افرزتها. وفقط بمنظار سوسيولوجي، بعيدا عن التصورات الآيديولوجية والاحكام المسبقة، نستطيع ربط الافكار بالواقع الاجتماعي ربطا جدليا، فبعد ثمانية عقود من تأسيس الدولة العراقية واكثر من نصف قرن على واردات النفط الهائلة وتوفر الامكانات المادية والمعنوية والبشرية لم يستطع العراق الوقوف على رجليه وبناء دولة القانون وقاعدة صناعية وزراعية وتجارية قويمة، لأن الدولة اعطت ثقلا متناميا لسلطتها للتخلص من الصراع بين التقليد والتحديث الذي واجهته منذ البداية. ومن اجل تفكيك القبيلة عملت مع الانكليز الى تحويل شيوخ العشائر الى ملاك اراض والفلاحين الى عمال زراعيين أجراء عندهم، وهو ما ساعد على قيام نظام ملكية شبه اقطاعي لم يستمد قوته من حيوية داخلية وانما من حكم الانتداب البريطاني. وقد دفع ظلم الملاكين الكبار واستبدادهم الى هجرة الفلاحين الى المدن الكبيرة وارتفاع معدل النمو الحضري الى اكثر من %75 مما سبب نمو احياء شعبية رثة عديدة عكست انطباعا بائسا وتحولت بالتدريج الى مصدر قلق اجتماعي وسياسي وتزايد حدة التوترات والصراعات الاجتماعية والسياسية ودفع بسكان هذه الاحياء الى كسر الحصار حولهم وانتهاز الفرص للدخول الى احياء المدن الاخرى ووظائفها وخدماتها ومن ثم التأقلم النسبي معها والخضوع الطوعي لوسائل الضبط العرفية والوضعية. وقد ساعد ارتفاع واردات النفط الهائل الى اتساع حجم الدولة واجهزتها العسكرية والامنية والادارية وانتج دولة ريعية استقطبت العاطلين عن العمل والنازحين والمهمشين في اجهزة الدولة والحزب والمؤسسات العسكرية، وفي ذات الوقت، تحولت الى دولة شمولية بعد ان ضربت بيد من حديد الطبقة العاملة والمتوسطة والمثقفة وفككتها من اجل تثبيت السلطة في قبضتها الحديدية. وللمرة الاولى في تاريخ العراق الحديث شهدت الدولة العراقية اندماج العصبية القبلية بالمؤسسة العسكرية والاقتصادية والسياسية وتلاحم العشائر الريفية بالحزب، وفي ذات الوقت، عملت الدولة على ضبط الحزب بالعشيرة وضرب العشيرة بالحزب وكسر شوكتها وجعلها وقودا لثلاث حروب عبثية طاحنة هدمت البنية التحتية وفككت النسيج الاجتماعي والثقافي والاخلاقي، مثلما شجعت على التقسيم الاثني والديني والطائفي وساعدت في الاخير على الخضوع الطوعي للسلطة العسكرية الاستبدادية والولاء المطلق لقيادتها الدكتاتورية.

كما ان انخراط جموع غفيرة في حركات واحزاب قومية واشتراكية واسلامية وغيرها زاد الوضع سوءا بسبب تعدد الانتماءات والولاءات وتنوع العصبيات واحتدام الصراع بينها في ظل انعدام مؤسسات مدنية وقانونية. وهكذا تداخلت القيم والاعراف العشائرية مع القيم والاعراف الدينية والتقليدية والطائفية والمدينية واخذت تضغط بكثافتها الكمية وليس النوعية على المدن ومؤسسات الدولة وتنتهز الفرص للتسلق الى قممها واضفاء الشرعية على اعمالها وتبريرها. ومما زاد في هذه الردة الحضارية تشجيع النظام الدكتاتوري البائد للقيم العشائرية السيئة كالفصل والدية والبدل وغيرها على حساب قيم المجتمع المدني، وبهذا حل الولاء لسلطة الفرد والقبيلة محل الولاء للوطن، ونشأت خلال العقود الاخيرة اجيال لا تعرف معنى الهوية الوطنية الواحدة. ولهذا اذا اراد العراقيون اليوم استعادة حريتهم وكرامتهم فعليهم اعادة انتاج وعيهم الاجتماعي والسياسي من جديد والعمل على بناء دولة القانون والمجتمع المدني واقامة نظام برلماني تعددي يحترم حقوق الانسان ويساعد على نشر ثقافة التسامح والتفاهم والحوار وبناء وحدة وطنية تساعدهم على اعادة انتاج هويتهم التي يبحثون عنها.

* كاتب وباحث عراقي مقيم في لندن