الخوف من شارون مبالغ فيه

TT

يبدو ان المحظور الفلسطيني يكاد يقع خلال الأيام القليلة المقبلة، حيث تتجه القيادة الفلسطينية تحت ضغط الخوف من تولي شارون رئاسة حكومة اسرائيل، نحو القبول بما ليست مضطرة لان تلزم نفسها به. وهذا الخوف مبالغ فيه الى حد كبير، وهي المبالغة التي دفعت القيادة الفلسطينية نحو المراهنة على باراك بأي ثمن، رغم ان مختلف الدلائل تشير الى ان الرجل خاسر السباق لا ريب. مع ذلك فيبدو ان في دوائر السلطة الفلسطينية من يعتبر ان باراك سيئ حقا، ولكن شارون أسوأ منه بكثير، وازاء الاختيار بين الاثنين فإن القبول بالسيئ قد يكون أهون من الأسوأ، باعتبار ان المر قد يكون في حدود طاقة الاحتمال، اما الاكثر مرارة فقد يتعذر احتماله.

واذ أقر بأن شارون أسوأ من باراك، وانه يختلف عنه في الدرجة وليس في النوع، حيث الأول كارثة والثاني مصيبة، بينما الاثنان من مجرمي الحرب، الا انني ازعم ان الخوف من شارون نابع من الاسراف في تصور ما يمكن ان يصدر عنه من اعمال شريرة غير انني أنبه في الوقت ذاته الى ان هناك حدوداً ستظل حاكمة لنواياه الشريرة، وان ما يقوله او يلوح به الآن لا يعني بالضرورة انه سيكون قادرا على فعله. على صعيد آخر فإن المرء لا يملك سوى ان يعبر عن الاسف اذ يرى ايضا ان ثمة تراخيا في موقف القيادة الفلسطينية بدأت اعراضه تظهر بوضوح اكثر منذ اطلق كلينتون مقترحاته للحل النهائي، التي هي اسوأ ما عبر عنه الموقف الأميركي، خلال تعاطيه للقضية الفلسطينية على مدى نصف قرن، ولا أستبعد ان يكون الخوف من شارون، خصوصا بعدما ظلت استطلاعات الرأي تؤكد تفوقه على باراك خلال الأشهر الاخيرة. هذا الخوف رفع من درجة التراخي، وكان له تأثيره الفاعل على عقلية القيادة الفلسطينية، خلال مختلف مراحل التفاوض الأخيرة.

وليس سرا ان ضغوطاً دولية ـ وأميركية بطبيعة الحال ـ مورست على القيادة الفلسطينية بقوة في محاولة اقناعها بأن وجود الرئيس كلينتون يعد فرصة مواتية يجب اهتبالها لأن الرجل يريد «بصدق» ان يصل الى حل، حتى وان كان ذلك لدوافع او تطلعات شخصية عنده (الحصول على جائزة نوبل للسلام، وتبييض صفحته وسجل عهده مثلا)، اضافة الى ان الادارة الجديدة قد تستغرق وقتاً طويلا ًنسبيا لفتح الملف. كما الحت تلك الضغوط بدورها على ان باراك على سوءاته افضل من شارون، ومن ثم فالتفاهم معه ممكن رغم كل شيء بينما التفاهم مع شارون لا أمل فيه.

من الواضح ان هذه الضغوط اثمرت على صعيدين، تمثل الأول في القبول الفلسطيني بالمقترحات الأميركية، أما الثاني فيتمثل فيما نشهده الآن من «هرولة» فلسطينية نحو التوصل الى ما يسمى باطار للاتفاق، ولا يستطيع مراقب ان يخطئ في ملاحظة تسارع وتيرة الهرولة من جانب الطرف الفلسطيني ـ والاسرائيلي ايضا، كلما اقترب موعد الانتخابات الاسرائيلية، الأمر الذي يعني ان الرئيس عرفات لا يزال يراهن على باراك، ولا يزال يأمل في ان يساعد الوصول الى اتفاق اطار معه على تغيير الموازين، الأمر الذي قد يجنبه مواجهة شارون في نهاية المطاف.

نعم اعلن رسميا ان قبول القيادة الفلسطينية بالمبادرة الاميركية كان مشروطا، وقرأنا كلاما طيبا عن تمسك القيادة الفلسطينية بثوابت القضية، وتأكيدها على ان المقترحات أو المبادرة لا تلبي الشروط المطلوبة لتحقيق سلام دائم، غير اننا حين قرأنا الورقة التي اعدها المفاوض الفلسطيني قبل اللقاء الأخير لعرفات مع الرئيس الأميركي السابق، والتي لخصت ما سمي بالمكامن والمخاطر والثغرات الهائلة التي جاءت في المقترحات الأميركية، ادركنا ان الكلام الكبير الذي ورد في التصريحات المعلنة لم يكن له صداه الكافي في ورقة النقد التي نشرتها صحيفة «الأيام» الفلسطينية في 2/1 الحالي. وهو ما يسوغ لنا ان نقول بأن القيادة الفلسطينية قبلت بالمبادئ التي قدرتها المبادرة الاميركية، ولكنها تحفظت على التفاصيل، علما بأن المبادئ المذكورة هي اكثر ما يتصادم مع الثوابت الفلسطينية. مثلا قبلت الورقة الفلسطينية بمبدأ ضم اراض فلسطينية من الضفة الغربية الى اسرائيل، واعترضت فقط على نسبة تلك الأراضي وموقعها، في حين ان الموقف المنطلق من «الثوابت» كان يفترض معارضة مبدأ الضم من الاساس. ايضا فإن الورقة الفلسطينية اقرت بمبدأ تقسيم القدس المحتلة، وانصب الاعتراض على كون التقسيم المقترح يحابي الاسرائيليين، وهو التقسيم الذي كان ينبغي ان يرفض من اصله، اذا ما تحدثنا عن موقف جاد يلتزم بالثوابت. وفيما يتعلق بقضية اللاجئين، فإن الورقة حين نصت على التمسك بحقهم في العودة، فإنها سارعت بعد ذلك مباشرة الى طمأنة الاسرائيليين الى ان الفلسطينيين على استعداد للتفكير الخلاق والمرن في آليات تطبيق حق العودة. وهذه الاضافة تثير العديد من الشكوك والتساؤلات حول طبيعة ذلك التفكير الخلاق في تلك الآليات، الذي رأى فيه البعض انه قد يؤدي في النهاية لا الى اعادة الفلسطينيين اللاجئين الى بيوتهم التي طردوا منها، ولكن الى اعادة بعضهم الى اراضي السلطة أو الدولة الفلسطينية، وتوطين الباقين في الأقطار التي لجأوا ونزحوا اليها.

عمليا يعرض باراك شيئا ذا قيمة يشجع الفلسطينيين على المراهنة عليه والاتفاق معه على اي شيء، سواء كان حلا او اطارا للحل المنشود، وليس في الأفق السياسي أي بادرة تشير الى انه في ظل توازنات القوى الراهنة يمكن انجاز شيء فيما خص التسوية النهائية للقضية. مع ذلك فلا تفسير للتحركات المتسارعة الراهنة التي استهدفت التوصل الى اطار للحل، سوى ذلك الخوف المبالغ فيه من تولي شارون رئاسة الحكومة الاسرائيلية، مع ما يترتب على ذلك من تداعيات خطيرة للقضية، الأمر الذي يدفعنا الى التساؤل عن طبيعة تلك التداعيات المتوقعة.

التلويحات الاسرائيلية بالاستعداد للحرب ضد العرب لا علاقة لها بشارون، ولا هو الذي سيقررها. لكن هذه التلويحات ترددت على لسان باراك ايضا وجاءت في تقارير شعبة الاستخبارات العسكرية الاسرائيلية، التي كشفت عنها صحيفة «هآرتس» فيما نشرته يوم 29 / 12 الماضي، ثم ان مسألة الحرب هي قرار المؤسسة العسكرية الاسرائيلية صاحبة القول الفصل في هذه المسألة، وليس اي رئيس وزراء ايا كان، ناهيك بأن موضوع الحرب لم يعد شأنا اسرائيليا خاصا، لأن هناك ابعاداً اقليمية ودولية ينبغي ان يعمل لها حساب في هذا الموضوع. وبعد الذي استثمرته الولايات المتحدة وأوروبا في مسيرة السلام منذ عام 1990، فإنه يتعذر اهدار كل ذلك الجهد والعودة بالمنطقة الى ما قبل عام 90، هكذا بسهولة وبساطة.

ليس في السياسة مستحيل بطبيعة الحال، لكن هناك احتمالات بعيدة واخرى قريبة، وموضوع الحرب يدخل ضمن الاحتمالات البعيدة أو المستبعدة في حسابات اللحظة الراهنة، التي قد لا تستبعد بدورها عمليات عسكرية محدودة على هذه الجبهة أو تلك، لا تؤدي بالضرورة الى جر المنطقة الى الحرب الشاملة.

ما هي الاحتمالات القريبة اذن؟

ليس مستبعدا ان يذهب شارون الى ابعد من محاولة قمع الانتفاضة أو المقاومة الفلسطينية، فيلجأ مثلا الى اقتحام المنطقة (أ) الخاضعة للسلطة الفلسطينية لكي يقوم بعمليات ملاحقة و«تأديب»، بعدها تعود القوات الاسرائيلية الى قواعدها، وهو الاسلوب الذي اتبعته حكومة باراك بطريقة اخرى اضيق نطاقا، حيث مارست عمليات قتل وتصفية جسدية بواسطة العملاء أو القوات الخاصة للعناصر القيادية الفلسطينية، ولكن المتوقع ان يتوسع شارون في مثل هذه العمليات من حيث الاسلوب والاهداف.

وسلوك من هذا القبيل لن يؤدي فحسب الى التوسع في الترويع والقمع، بل انه سيضع السلطة الفلسطينية القائمة على تلك المناطق في مأزق شديد اذ سوف يسقط اعتبارها، لأنها ستكون عاجزة عن الرد وحماية الجماهير الفلسطينية من البطش الاسرائيلي. في الوقت ذاته فإن السلطة الفلسطينية لن تجد مبرراً واحداً للضغط على المقاومة والانتفاضة، وانما ستضطر إلى السكوت عليها كحد ادنى وإلا فقدت شرعيتها، وسقطت من الناحية العملية.

اسقاط السلطة الفلسطينية وافقادها لشرعيتها في ظل شارون هو اكثر ما يخيف عرفات الآن فيما يبدو، حتى ازعم ان ذلك يعد السبب الرئيسي للهرولة الفلسطينية المشهودة وانه اذا كان عرفات قد تمنع لبعض الوقت اثناء المفاوضات، لاعتباره ان باراك مضغوط عليه، وان مستقبله السياسي في مهب الريح، بسبب الفجوة الكبيرة بينه وبين شارون، الا ان عرفات اصبح خلال الاسابيع الاخيرة اكثر حرصا على التوصل الى اتفاق، وبعدما اصبح خطر وصول شارون الى السلطة محققا بدرجة مؤرقة له عن ذي قبل.

غير ان الطريق ليس مفتوحاً ولا ممهداً امام ذلك الاحتمال الاسوأ الذي قد يلوح مع وصول شارون الى السطة، وذلك من جوانب عدة، في مقدمتها:

ـ ان باراك في حالة توليه رئاسة الحكومة لن يكون بمقدوره ان يشكل حكومة قومية، بسبب سجله المعروف، وبسبب ما يمثله وجوده من تهديد للسلام تطلع اليه الاسرائيليون وتوقعوه طيلة السنوات العشر الاخيرة. لذلك فالمتوقع ان تكون حكومته ضعيفة وقصيرة العمر في الوقت ذاته.. واغلب الظن انه لن يستقر في منصبه المرتقب، تماما مثل سلفيه باراك ونتنياهو.

ـ اشرت قبلا الى ان موضوع السلام في المنطقة لم يعد شأناً اسرائيليا فلسطينيا او عربيا فحسب، ولكن بعض القوى الدولية ـ الولايات المتحدة خاصة ـ صارت طرفا فيه، وهذه القوى لن تقبل باعادة الوضع الى ما كان عليه قبل عام 90، خصوصا ان لها مصالح في المنطقة. وينبغي الا ينسى هنا ان الرئاسة الاميركية الحالية اكثر وعيا بأهمية تلك المصالح، التي كان الرئيس بوش على علاقة بها في وقت سابق.

ـ من ناحية ثالثة ينبغي الا ينسى انه اذا كانت السلطة الفلسطينية عاجزة عن فعل شيء امام حماقات شارون، الا ان الواقع الفلسطيني له معطيات اخرى، اعني انه في وجود عدد يتراوح بين 20 الى 40 الف فلسطيني مسلح في الشرطة والاجهزة المختلفة فإن اقتحام الاسرائيليين لاراضي السلطة الوطنية والقيام بعمليات «تأديبية» فيها، لن يكون نزهة دائما وانما سيكون مغامرة لها ثمنها الموجع لاسرائيل، التي لديها حساسية خاصة ازاء ارتفاع عدد القتلى بين جنودها، ومعلوم ان هذا العامل بالذات كان له دوره الاساسي في الانسحاب الاسرائيلي المهين من جنوب لبنان.

ما أريد ان اقوله ان شارون بكل شروره وسوءاته لن يكون مطلق اليد، في حال توليه السلطة، وانما ستظل هناك خطوط حمراء امامه لن يستطيع تجاوزها، خصوصاً انه يعلم جيدا كم هو مرفوض اوروبيا واميركيا، وان الحساسية في الأوساط الغربية ازاءه، اكبر منها تجاه اي رئيس وزراء اسرائيلي آخر.

لن يسعدنا تولي شارون للسلطة بطبيعة الحال، لكن اكرر انه ليس اسوأ كثيراً من غيره، بل ان ما كان يفعله باراك في السر هو الذي سيفعله شارون في العلن، وفي كل الاحوال فإن الاسراف في الخوف من مجيئه يظل تقديرا خاطئا، أخشى ان يرتب نتائج وتداعيات اخرى تكرس الخطأ وتدفع به الى مستنقع الخطيئة.