العراق .. صفيح السيادة الساخن ..!

TT

من المؤكد اننا سنسمع كلمة «سيادة» على نحو متكرر في وقت اشتد فيه الجدل حول قرار جديد للامم المتحدة ازاء العراق. ففي سياقه القانوني يعني مصطلح «السيادة» سلطة سياسية عليا ومستقلة، وهي السلطة التي وعد التحالف الذي تقوده أميركا بنقلها الى العراقيين بنهاية الشهر الجاري.

إلا ان العراق، بوصفه عضوا في الامم المتحدة، ظل دولة ذات سيادة، وفي واقع الامر ظل احترام سيادة العراق هو اساس 20 قرارا اجازها مجلس الأمن منذ عام 1990. ولذا فالأمر المهم هو ممارسة هذه السيادة فيما يحاول بعض اعضاء مجلس الأمن فرض قيود على الحكومة الانتقالية الجديدة في بغداد.

قال الرئيس الفرنسي جاك شيراك، خلال كلمة ألقاها خلال زيارة له المكسيك الاسبوع الماضي، انه ينبغي ان يسمح للشعب العراقي بأن يقرر لنفسه. ولكن بعد يوم واحد فقط شكا قصر الاليزيه من اياد علاوي، الذي اختير رئيسا للحكومة المؤقتة «شخص على صلة وثيقة بالاميركيين». وأكد مصدر من قصر الاليزيه انه من الافضل اختيار شخص من غير المقربين من التحالف لشغل هذا الموقع.

نعرف جميعا ان هناك شخصا ربما يستوفي هذا الشرط، اسمه صدام حسين وهو يقبع في سجن ما ببغداد. السياسيون العراقيون المتبقون، بمن في ذلك الرئيس غازي الياور، مقربون جميعهم من التحالف ورحبوا بحرب تحرير العراق.

لوزير الخارجية الروسي ايغور ايفانوف تعريفه الخاص للسيادة. فهو يقول ان الحكومة العراقية الجديدة يجب ان تتمتع بـ«سيادة كاملة» ولكن لا يجب ان يسمح لها بتحديد الشروط التي ستبقى بموجبها القوة المتعددة الجنسيات في العراق، على اساس ان يترك هذا القرار لمجلس الأمن.

إلا ان فرنسا ليست وحدها التي تتحدث بصورة متناقضة حول قضية السيادة العراقية، اذ ان ادارة بوش ايضا عبرت عن مؤشرات متناقضة في هذا الشأن. فقد بدأ الحديث عن هذه القضية بالاشارة الى ما اسمته «السيادة المحدودة»، إلا انها تخلت في وقت لاحق عن صفة «المحدودة» لكنها لا تزال مصرة على ان تكون عملية اتخاذ بعض القرارات خاضعة لآلية لم يجر الافصاح عن تفاصيلها بعد وستكون لواشنطن القرار الاخير بشأنها.

جزء من هذا الارتباك يعود الى اصرار واشنطن، بتشجيع من لندن، على السعي الى الحصول على قرار جديد من الامم المتحدة. رئيس الوزراء البريطاني توني بلير ربما يكون في حاجة الى ذلك لأسباب تتعلق بالسياسة الداخلية. كما ان ادارة بوش ربما تكون في حاجة الى هذه القرار لأسباب تتعلق بمعركة انتخابات الرئاسة في مواجهة الحزب الديمقراطي.

فيما يتعلق بالعراق، لا تبدو هناك حاجة الى قرار آخر. فروسيا وفرنسا والصين لن تشارك في الغالب بقوات عسكرية في العراق او تساهم بمساعدات مالية لأن ذلك في نظرها سيثبت صحة ما ذهب اليه بوش عندما قال انه بالامكان تحرير العراق وتحويله الى دولة افضل. وفيما يتعلق بالرجال والمال سيظل العراق لبعض الوقت تحت مسؤولية التحالف الذي تقوده أميركا.

والحقيقة هي ان الناس في العراق لا يريدون الامم المتحدة، كما ان الامم المتحدة في المقابل لا ترغب في لعب دور في العراق. اذ ان الاخضر الابراهيمي، رئيس بعثة الامم المتحدة في العراق، ربما ادرك هذه الحقيقة منذ البداية. لكنه رغم ذلك سمح برواج احاديث حول انه شخصيا الذي سيختار أعضاء الحكومة الانتقالية الجديدة. خرج الابراهيمي ايضا بفكرة غريبة تتلخص في ان ما يحتاجه العراق هو حكومة «تكنوقراط» وكأنما المشكلة تكمن في صيانة محرك سيارة وليس بناء دولة ديمقراطية جديدة. ما يمكن قوله هنا هو ان العراق لم يشهد على مدى خمسين عاما تقريبا ممارسة سياسية عادية. فالحكومات التي شكلها الطغاة المتعاقبون ضمت في من ضمت عددا من التكنوقراط، وبعـــض خبراء في قتل البشر بالغازات السامة.

ما يحتاجه العراق هو المشاركة الشعبية في اتخاذ صنع القرار، ومن المؤكد ان السبيل الافضل للتحرك نحو هذا الاتجاه ليس هو السماح للاخضر الابراهيمي باختيار حكومة من التكنوقراط للعراق او السماح لمجلس الأمن بفرض تفويض بديل على العراق.

أمام واشنطن ولندن واجب اخلاقي لمنع اتخاذ قرار قد يجعل من سيادة العراق امرا بلا معنى. وفي هذا السياق لا بد من الاشارة الى اربع قضايا رئيسية.

أولا: لا يجب ان يكون هناك فيتو حول حجم ومحتوى الحكومة العراقية الجديدة. فاذا رضي الناس ام لا، يعتبر مجلس الحكم العراقي المؤقت اعلى سلطة سياسية في البلاد حاليا، كما يتمتع بسلطة اخلاقية لأنه يحظى بتأييد غالبية قطاعات المجتمع المدني التي تمثلها كل الاحزاب السياسية باستثناء حزب البعث ورجال الدين وزعماء العشائر والنقابات والروابط الثقافية والمهنية.

ثانيا: القرارات الخاصة بشكل وحجم التفويض الممنوح لأي قوة متعددة الجنسيات لحفظ السلام يجب ان تتخذ بواسطة الدول المشاركة في هذه القوة مع موافقة الحكومة المؤقتة العراقية. اذ ليس هناك سبب يدعو روسيا او الصين او فرنسا لاستخدام حق الفيتو بشأن تكوين هذه القوة والدول المشاركة فيها وطبيعة عملياتها وطول الفترة الزمنية للمهمة المكلفة بها.

ثالثا: لا يجب ان تحاول واشنطن إجبار الحكومة العراقية على المصادقة على القرارات التي تقع خارج دائرة سلطاتها، فالحكومة العراقية الانتقالية لا تستطيع إلزام العراق باتفاقيات ومعاهدات وعقود تجارية طويلة الامد، ذلك ان مثل هذه القضايا يجب ان تقررها الحكومة المنتخبة التي سيجري تشكيلها العام المقبل.

رابعا: ليس بوسع الحكومة الانتقالية اتخاذ قرار بشأن الدستور العراقي الدائم، فهذه المهمة من اختصاص جمعية تأسيسية منتخبة.

يبقى القول ان للحكومة الانتقالية مهمة رئيسية واحدة تتمثل في إجراء انتخابات حرة ونزيهة تحت رعاية الامم المتحدة وبإشراف دولي في اسرع وقت ممكن. فالتاريخ المحدد لإجراء الانتخابات هو يناير (كانون الثاني) المقبل، ولكن ليس هناك ما يمنع من تحديد موعد قبل ذلك. وللامم المتحدة دور حاسم في ضمان حرية ونزاهة الانتخابات المرتقبة.

لذا فإن القرار المقترح لمجلس الأمن يجب ان يركز في المقام الاول على قضية الانتخابات، اذ يجب ان تحدد القواعد التي يجب ان تعمل وفقها الامم المتحدة مع الحكومة الانتقالية. كما يجب على التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة مباشرة تفويض جديد يتمثل في التأكيد على سلامة العراق من أي عدوان اجنبي ومساعدته على بسط الأمن والاستقرار اللازمين لإجراء الانتخابات.

الى ذلك تحاول كل من روسيا والصين وفرنسا فرض قيد زمني محدد على فترة عمل قوة حفظ السلام المتعددة الجنسيات، بل ان روسيا اشارت الى ان فترة ستة شهور تعتبر «الحد الاقصى المقبول» لعمل هذه القوة. وهو مقترح يمكن ان يتوصل من خلاله مؤيدو صدام حسين وحلفاؤهم الارهابيون الى ان كل ما هو مطلوب منهم هو مواصلة الضغط لفترة ستة شهور اخرى، أي عرقلة خطط إجراء الانتخابات المزمعة.

والى ذلك أيضا لا تزعزع فكرة نظر مجلس الأمن كل ستة شهور في مسألة وجود قوة حفظ السلام المتعددة الجنسيات استقرار الحكومة الانتقالية فحسب، بل ستضفي شيئا من الغموض على الوضع.

يقول الرئيس بوش ان أميركا على استعداد للبقاء في العراق الى حين إقامة حكومة عراقية يختارها الشعب، وهذه الرسالة الواضحة يجب ألا تضعفها الثرثرة الدبلوماسية للامم المتحدة. فللعراق حكومة انتقالية مهمتها الاساسية مساعدة الشعب على اختيار النظام السياسي والرموز التي يريدها. ومن هنا تجب مساعدته على تحقيق هذا الهدف، فالوقت غير مناسب لاستخدام العراقي كذريعة لتصفية حسابات اخرى بالمناورات الدبلوماسية.