رفح .. ثلاجة الخضار

TT

لم تكن لتفاجئنا الصور والمشاهد، ولم يكن حجم الكارثة ليفاجئنا ونحن الذين لم نتعود من الاحتلال غير ذلك. غير أن مشهد أربع وثلاثين جثة للشهداء صفت في ثلاجة خضار كانت قصة تروي مسيرة شعب معذب.

ضاق مستشفى ابو يوسف النجار عن استيعاب سرعة وصول الجثث، وبدا أن الأطباء و الممرضين وصلوا إلى حالة غير مسبوقة من الإرهاق و السهر، إذ بين اللحظة والأخرى تأتيهم «رزمة» جديدة من الشهداء و«رزمة» اكبر من الجرحى. المستشفى صغير ومحدود الإمكانيات، فضلا عن أن المدينة معزولة ومحاصرة وليس من السهل أن تقوم بنقل المريض إلى المستشفى الأوروبي الواقع على أطراف المدينة بسبب وجود دبابات مهمتها أن تواصل قطع الطريق وكذلك قطع الحياة عن المصابين. اضطرت إدارة المستشفى إلى استئجار ثلاجة خضار كانت ملأى بالبطاطس والطماطم والخيار، ومن ثم تفريغها ورص جثث الشهداء فيها. كان هناك احمد، 12 سنة، وشقيقته أسماء، 10 سنوات، طفلان بريئان لا يبدو أنهما يشعران بدرجة البرودة داخل الثلاجة التي لم تكن تزيد عن ثلاثة أو اثنين فوق الصفر. كان هناك حامد بهلول، 18 عاما، ووليد ابو جزر، 19 عاما، كانوا قد صفوا كما يصطف الناس للصلاة، غير ان اكفانهم كانت حمراء مصبوغة بالدم. بعضهم كان عبارة عن قطع لحم بسبب قسوة الصاروخ الذي فتت اجسادهم. على ابواب المستشفى وعلى ابواب ثلاجة الخضار كان أهالي رفح يتدافعون ويسألون عن ذويهم. رأيت امرأة أُغمي عليها عندما قالوا لها ان ابنها داخل ثلاجة الخضار. حاولت ان تراه فمنعوها. حاولت مرة أخرى، لكنهم منعوها لأنه لم يتبق من جسده شيء بعدما احرقه الصاروخ وأحاله قطعة فحم!

بين الحين والآخر كنا نسمع عن آلة التعذيب الجهنمية التي تسابق الزمن في أحياء مثل «تل السلطان» و«البرازيل» و«السلام». كانت روح الانتقام المشبعة بنهم القتل والتدمير قد انطلقت من عقالها فجاست خلال البيوت تبحث عن ضحايا جدد. قتلوا أربعة من الشبان الفلسطينيين بعدما خرجوا يسلون أنفسهم. وقتلوا غلامين صغيرين خرجا يحملان زجاجات فارغة لملئها بالماء. سمعنا عن امرأتين جاءهما المخاض ولم يكن بالإمكان الوصول إلى المستشفى فتبرع طبيب من لجنة الطوارئ بارشادهما عبر التلفون لكيفية التصرف.

المشاهد كثيرة، مؤلمة، وخارجة عن القرن العشرين والواحد والعشرين، خارجة عن السلوك البشري، ومارقة على كل قانون دولي. كانت هناك مذبحة ومجزرة. أراد جيش الاحتلال الاسرائيلي هذه المرة أن يثأر لكرامته التي امتهنت بعد مقتل ستة من جنوده في رفح، فأطلق العنان للجنود ليشبعوا رغبة القتل التي تأججت بشكل أسرع من النار في الهشيم. في اقل من عشر ساعات سقط أربعة وعشرون شهيدا في تل السلطان. وفي اقل من ساعتين سقط ثمانية شهداء في حي البرازيل، وخمسة عشر شهيدا حصدهم صاروخ واحد وسط مخيم يبنا. يكذبون في اسرائيل فيقولون إن العملية تهدف الى حماية الاسرائيليين! لكن الصحيح أنهم يحمون الإسرائيليين بقتل الفلسطينيين، ويوفرون الأمن على جثث الفلسطينيين. وعلى ما يبدو فان الصواريخ، التي تصلهم من البيت الأبيض، قد طفحت في المخازن الاسرائيلية وصار بالامكان الاستغناء عن العشرات منها بتجريبها وسط المخيمات الفلسطينية، وها هي بالفعل أعطت نتائج باهرة، فالصاروخ الواحد يمكن ان يحصد عشرين شهيدا وأكثر من 75 جريحا بضربة واحدة. برافو! ضربة موفقة من الطيار الذي ينظر من بعد كيلومترين في السماء ثم يضغط بيده على الزناد. اليوم يتصرف شارون بشكل جنوني كما الثور الهائج في حلبة المصارعة، انه يسابق الزمن لإغراق غزة بالدم والأشلاء قبل طرح خطته المعدلة بالانسحاب من غزة. هو يريد نقل رسالة للفلسطينيين بانه لن يخرج مهزوما كما خرج من لبنان. يريد ان يخرج «منتصرا» بأي ثمن، حتى لو كان نصرا وهميا. لكن يبدو ان رسائل شارون لا تصل لانها مكتوبة بلغة عبرية حمراء، ولأننا لا نفهم الا اللغة العربية، وحرف الضاد العربي الذي علمنا كل معاني الكرامة والثبات وعدم الركون أو الركوع للأعداء. بامكان شارون ان ينسف كل غزة فوق رؤوسنا بطائرات F16 لكنه لن يحلم يوما بان ينال من عزيمة الاطفال الذين وقفوا يقسمون ويتعهدون بالثأر امام ثلاجة الموتى .. آسف ثلاجة الخضار!

* رئيس تحرير جريدة «الرسالة» ـ غزة