دمعة على قبر الهندي المجهول

TT

عند تقاطع نهري «واكولا» و«سان مارك»، على بعد أميال من تالاهاسي عاصمة ولاية فلوريدا الاميركية، متحف قروي بسيط مؤلف من حجرة واحدة يأخذ من وقتك بالكاد نصف ساعة، لكنه يعطيك صورة واضحة عن تاريخ تلك المنطقة التي تصارع فوق جثث سكانها الأصليين الهنود الحمر الإسبان والفرنسيون والهولنديون والأنجليز قبل ان تصبح اميركية.

والأهم من تكثيف التاريخ ـ وكل المتاحف تفعل ذلك ـ ان ذلك المتحف يعطيك من دون أن يقصد أصحابه فكرة ممتازة عن طريقة تزوير التاريخ وهي عملية متقنة يقوم بها المنتصرون في كل زمان ومكان كجزء متمم للمعارك الحربية.

وقبل كشف آليات التزوير التاريخي العنيف في تلك الدلتا الهادئة تخبرك أكثر من لوحة ان الرحالة الاسباني نارفيز وصل هناك للمرة الاولى عام 1523، وبعدها بأربعة أعوام كان يبني أول سفينة محلية في تلك القارة، وهذه معلومة ضرورية لتحضر نفسك للاقتناع بان الاوروبيين لهم حق التطوير الذي سيصير أهم من حق ملكية الارض حين يقترب قرار تصفية سكان البلاد الاصليين الذين لا فائدة منهم.

بداية لا بد ان توحي ان الهنود الحمر الذين كانوا في تلك المنطقة من البرابرة المتوحشين، حتى تبرر ضمنا في نفس وعقل المشاهد الفظائع التي حصلت بحقهم لاحقا، لذا يصعقك الذين نظموا ذلك التزييف المتقن منذ اول المتحف بصورة مكبرة ملونة لهندي أحمر وهو يهوي بساطور مهول على رقبة الراهب الفرنسيسكاني الأب خوان دي سيجورا، الذي كان من أوائل الفرق التبشيرية التي دخلت تلك البلاد في أعقاب الصورة الزاهية التي رسمها الرحالة الثاني هيرناندو دوسوتو، الذي وصل الى اراضي العالم الجديد عام 1539، أي بعد دزينة اعوام من بناء سفينة نارفيز التي تظنها سفينة نوح لكثرة ما يبالغون في أهميتها.

المتوحشون الهنود يقطعون الرقاب بالسواطير، أما حين يقع الظلم على الهنود الحمر أهل الأرض والبلد، الذين ولدوا فوق ذلك التراب وارغموا على تركه للقراصنة الجدد والباحثين عن الثروات في العالم الجديد، فان الصور الملونة تختفي ومعها الرسوم والتفاصيل وآهات الضحايا فلا يظهر من المشهد الأخير لأفول أمة وضياع شعب غير سطرين بخط ناعم يخبران الزائر في آخر متحف (سان ماركوس دو آلاباتشي)، ان الرئيس الأميركي مونرو طلب من الجنرال أندرو جاكسون الذي احتل تلك المنطقة منذ عام 1819 ان يجد حلا لمشكلة الهنود الحمر (المسألة الهندية) فوضعهم الجنرل الرؤوف الرحيم الشفوق في محميات ومزارع جماعية.

هذا التهذيب المبالغ فيه في كتابة التاريخ لا يقول ان الجنرال حبسهم من دون محاكمات، ولا يشير الى انه عاملهم كالحيوانات وحدد حركتهم حتى داخل الاقفاص المغلقة، فهو وحسب ما يخبرنا المتحضرون الذين أعدوا وثائق المتحف يجد حلا مثاليا متحضرا للمزعجين الذين كان ذنبهم الوحيد انهم يدافعون عن حقهم في العيش الكريم فوق تراب الارض التي ولدوا عليها واحيانا يعبرون حدود الولاية للدفاع عن أخوانهم في الولايات المجاورة.

ولا أحد يزعم ان الهنود الحمر كانوا في قمة التحضر حين وصل الغزاة الاوروبيون الى القارة الاميركية، لكن الأغلبية على ثقة بان الذين وصلوا على قوارب الغزو بعد كولومبوس لم يكونوا متحضرين ايضا، وكان الذهب لا الكتاب المقدس هو الذي يقود خطاهم ويحركهم فلو كانوا يقرأون الأناجيل التي كانت ترقد على الدوام في ركن مهمل من سفنهم لما ارتكبوا ما يشيب له الولدان من تصفيات عرقية وجرائم.

والمشكلة الاساسية مع الهنود الحمر انهم كانوا كالعرب السمر (شعوبا وقبائل) لا تتعارف بل تتقاتل فهم مشتتون متنابذون متنافرون وليس هناك جهة ذات نفوذ ولا دولة تدافع عنهم، فالجنرال جاكسون نفسه الذي حبسهم كالحيوانات في المحميات (تبهدل وتشرشح) حين أقدم على إعدام اثنين من البريطانيين كانوا يشجعون الهنود الحمر على الهجوم على ولاية جورجيا جارة فلوريدا الشمالية.

لقد قاد اعدام اثنين من البيض الانجليز الى أزمة دبلوماسية شغلت حقبتين من القرن التاسع عشر، ولم يحرك تهجير وتدمير ألوف القرى الهندية أي احتجاج في القارة المتحضرة فمنذ البداية عاملت أوروبا ذلك الشعب الطيب على انه من دون مرتبة البشر وكان من الضروري لجنودها نفسيا ان تفعل ذلك فأنت لا تقتل خصمك من دون رحمة ولا ندم الا بعد تشييئه وتقزيم انسانيته وانزاله الى مرتبة الحيوانات السائبة.

ويوجد من يعتقد ان هنود فلوريدا كانوا أفضل حظا من اخوانهم في تنيسي والولايات الوسطى، فهناك جمعوهم بعد ان صادروا أراضيهم الخصبة ووعدوهم بنقلهم بالسفن الى كولورادو واوكلاهوما وولايات أخرى لاعطائهم ارضا جديدة لاصلاحها بدلا من أراضيهم المسلوبة، وحين وصلوا الى ضفاف الميسيسبي كانت هناك قوارب تكفي لاقل من ربعهم، وهكذا سارت البقية شمالا على الاقدام الى ان ضربتها الأوبئة والطواعين ومن وفره المرض قتله الجوع على طريق الأحزان الطويل لفناء أمة لم يحرك العالم ساكنا وهو يراها تذوب وتختفي بالتدريج كثلوج الربيع. وما تزال بداية طريق الفناء المعروف باسم (طريق الدموع) موجودة الى اليوم في ولاية تينيسي ويذهب اليها الزائرون للمشاركة متأخرين في ذرف الدموع على الهندي الأحمر المجهول الذي مات ودفن ـ ويا لعار التاريخ ـ على قارعة الطريق من دون شاهدة أو دمعة او علامة.

[email protected]