ما أصعب السقوط!

TT

يروي (بافاروتي) مغني الأوبرا الإيطالي الذي اعتزل الغناء أخيراً، وآثر قضاء بقية حياته مع زوجته الأخيرة التي تصغره بثلاثين عاماً، هو يغني لها في غرفة النوم، وهي تسمعه بالحمام.. وقبل أن أنسى، فيروى عنه أنه قال: عندما كنت صغيرا عرّفني أبي الخبّاز إلى روائع الغناء وحضني على تمرين صوتي، فدرست على يد أحد المغنين المحترفين في بلدتي الأم مودينا في إيطاليا، ثم التحقت بدار المعلمين، وبعد تخرجي، سألت أبي: «هل أحترف الغناء أم التعليم؟» فأجابني: «يا بني، إذا حاولت الجلوس على كرسيين سقطت بينهما. في الحياة، عليك اختيار كرسي واحد». واخترت كرسيا واحدا، وتطلّب مني ذلك سبع سنوات من الدرس والجهد قبل ظهوري كمحترف للمرة الأولى، وسبع سنوات أخرى قبل وصولي إلى أوبرا متروبوليتان. والآن اعتقد أن علينا أن نهب أنفسنا إلى العمل الذي نختاره من أي نوع كان. الالتزام هو مفتاح النجاح، فاختر كرسياً واحدا.

والآن السؤال موجه لكم: هل تعتقدون أن كلام هذا المغنّي صحيح أم (خرطي)؟

أظن أن 99% منكم يعتقد أنه صحيح، وأخشى أن أقول أن 99% منكم لا ينفذونه، وأولهم محسوبكم الذي يكتب هذا الكلام المتراكب كبعض اسنان (الحونش)، فما أكثر ما دخلت (اهبش) في كل مجال، وما أكثر ما وقعت، وما أكثر ما زحفت، وما أكثر ما دخت، وما أكثر ما أفلست، وما أكثر ما أضحكت طوب الأرض على خيبتي.. ومع ذلك، وإلى الآن لم استسلم ولم اعترف بالمثل القائل بأن صاحب شغلتين (كذاب)، والثالثة (حرامي).. المشكلة أن (وكستي) كبيرة إلى درجة أنني لم استطع أن أكون لا هذا ولا ذاك.. فشغلاتي أو مشاغلي لا تعدو ولا تحصى، لا تقنع بالكثير فكيف لها أن تقنع بالقليل، فالقناعة في عرفي هي حصالة نقود فارغة، أما الكنز الذي لن يفنى إلاّ بقدرة الخالق جل شأنه، فهو: (الوول ستريت) في نيويورك.. حيث تتقلب القلوب والمصائر، وتحترق الأصابع، وتموت الضمائر، ويداس على جماجم البشر ثم تسحق بكل العملات والمعادن النفيسة. ومن يقرأ كلامي هذا يعتقد أنني رضعت من نفس (الديد) ـ أي الثدي ـ الذي رضع منه (بل غيتس)، وهناك احتمال انه لم يرضع من صدر أمه، اما لأنه ناشف من الحليب، واما أنها هي لا تريده أن ينكسر أو يتهدل، وإما أن يكون الرضيع (بل) قد عافه لأنه لم يعجبه، وآثر عليه زجاجة الرضاعة أو (الببرونة)، وهو عكسي تماماً، حيث أنني أكره (الببرونات)، وأفضل الأشياء الطبيعية الممتلئة.

وإذا أردنا أن نخوض (بالجد) وجد الجد، فالإنسان (السوي) المنصف لنفسه، والذي يريد أن يكرس حياته للنجاح، فعليه فعلاً أن يأخذ كلام (بافاروتي) كحقيقة ناصعة، وليترك كلامي، أو نموذجي الذي حاد عن الطريق المستقيم، ولا زال يتخبط في شعاب ومفازات لا تستوطنها غير الذئاب والأفاعي وبعض من الجن المسالمين.

إن من يبدع في مهنته مهما كانت يدوّية أم وظيفية، علميّة أم فنية، مدنية أم عسكرية، تجارية أم خدمية، أيا كانت المهنة سواء على البر أو البحر أو السماء أو الفضاء أو في أعماق المناجم.. إن من يبدع إنما هو مسمار، أو ترس، أو عجلة تساهم في تدوير (ميكانيكية) الحضارة.

من الممكن أن ينجح الإنسان في أكثر من شغلة، ولكن نجاحه يكون أكبر لو ركز على شغلة واحدة.. ومن الممكن أن يجلس إنسان على كرسيين متلاصقين، إذا كانت (عجيزته) كبيرة أكثر من اللازم، ولكن صدقوني انه لن يكون مرتاحاً، وان شيئاً غلطاً ينخس في ظهره، وان هناك فجوة بين الكرسيين لا بد وأن يأتي يوم وتتوسع، وعندها ما أصعب سقوط الرجل كبير العجيزة.