العراق: ما بعد حكومة الترانزيت.. الفرص والخيارات والمسؤوليات..!

TT

أخيراً تم تشكيل حكومة «ملء الفراغ»، بعدما تحمل الأخضر الابراهيمي من حملة تشويه غير مبررة كانت توحي وكأنه ذهب إلى العراق حاملاً لواء انقلاب عسكري أو ثورة شعبية تطيح بالرؤوس القابضة على سلطة عابرة. لكن النتيجة أظهرت أن ما حصل هو ناتج عن رغبات مشتركة ما بين مجلس الحكم المنحل وقوات التحالف، ومشورة المبعوث الأممي، ولم تخرج الحكومة الجديدة عن مسار ذلك المجلس وهي وليدته بعد غيابه عن المسرح غير مأسوف عليه. وقد سارع صاحب المصلحة السياسية الأولى بما يجري في العراق الرئيس بوش للتعبير عن غبطته وحماسته لهذا الانجاز، وحرص في خطبه وتصريحاته خلال المناسبات المتوالية على تقديم خلاصات وإشادات شخصية لرئيسي الجمهورية والحكومة الجديدين، وتقديراته بأنها حكومة متوازنة في ضوء حسابات المسؤولين الجدد عن إدارة الملف العراقي، بعدما ورطه المسؤولون السابقون عن الملف بقيادة «رامسفيلد وولفويتز وفيث وريتشارد بيرل وغيرهم»، بحفر أرضية واسعة لمستنقع عراقي يزيل نشوة الانتصار العسكري ويغلق منافذ المخططات اللاحقة، عندما نجحوا قبل الاجتياح مع بعض العراقيين المستفيدين بتضليل قيادة البيت الأبيض بمعلومات منظمة وهمية، أخطرها المتعلقة بأسلحة دمار شامل ثبت كذبها، وحل الجيش العراقي وتدمير مؤسسات الدولة العراقية. ولم يتوقف أذاها على شعب العراق فحسب وإنما على صدقية المشروع السياسي الأمريكي في العراق والمنطقة، دعك عن ما نفذه أولئك الوكلاء العراقيين تحت جنح الانفلات الأمني المدّبر من مخطط جهنمي للقتل والترويع وإشعال الحرائق.

ولو توفرّت في ذلك البلد إمكانيات تدفق المعلومات وشفافية وأمن الرأي الصحفي مثلما عليه في الولايات المتحدة والتي انكشفت بفعلها مثلاً فضيحة «أبو غريب»، لحدثت صدمات نفسية أكثر درامية حول المسلسل البربري الذي ما زال العراقيون يتعرضون إليه. وعلى أية حال فالتشكيل الحكومي الذي تحقق هو جزء من سلة الحل المرحلي الذي يتحمل مسؤولية مشاوراته الأخضرالابراهيمي، إضافة إلى عقد مؤتمر وطني عراقي موّسع يفترض أن تتم الدعوة إليه خارج قبضة قوى مجلس الحكم المنحل، ويضم جميع الأطياف والمكونات السياسية، ويتحول إلى مجلس استشاري رديف للحكومة القائمة وينشط باتجاه الاعداد للانتخابات المقبلة.

ولعل حساسية المرحلة التي يمر بها العراق، تفرض ومن دون تأثيرات عاطفية أو أحكام مسبقة، تأشيرالمسؤوليات سواء التي تتحملها حكومة «الترانزيت»، أو القوى السياسية التي لا بدّ أن تكون الآن جميعاً على خط شروع واحد من دون امتيازات، إضافة إلى مسؤوليات أمريكا والمجتمع الدولي، والقوى الإقليمية العربية وغير العربية:

أولاً - لا شك أن القرار الدولي الجديد سيرفع عن كتف الولايات المتحدة المسؤوليات القانونية التي فرضها القرار السابق 1483 على الرغم من الخرق الأمريكي الفاضح الذي كشفته قضية سجن أبي غريب. وستعوّم هذه المسؤولية تحت عنوان «القوات متعددة الجنسيات» حيث لا وصاية للأمم المتحدة على تلك القوات. ولهذا يظل موضوع السيادة مطلباً دولياً وعربياً ووطنياً عراقيا، لا تلبي حاجاته الألفاظ الملتوية مثل «احترام رأي السلطة العراقية في بقاء أو عدم بقاء القوات الاجنبية في العراق، وصلاحية القرار السياسي النهائي في عمليات تلك القوات على الأرض» بل إن تلك الصياغات غير المتوقع تعديلها جوهرياً ستربك الحكومة المحلية، وتضعها في موقع الاهتزاز والتشكيك من قبل الشعب العراقي، خصوصاً أمام احتمالات تصعيد العمليات القتالية في الفترة المقبلة. تتطلع الولايات المتحدة إلى تعطيل وانهاء معارضة كل من فرنسا وروسيا لمخططها الجديد عن طريق منح هاتين الدولتين مكاسب تجارية واستثمارية محدودة في مشاريع إعمار العراق. ولا يتوقع للقرارات الدولية أن تحدث تغييراً جوهرياً في الواقع العراقي ما لم تبدّل الولايات المتحدة من سياستها الفاشلة بمجموعة اجراءات تعيد الاطمئنان للعراقيين، بالغاء القرارات الجائرة، مثل حل الجيش العراقي وقوات حرس الحدود وإعادة جميع منتسبيه ما عدا المتورطين بجرائم ضد أبناء الشعب، وإلغاء القانون البربري النازي (اجتثاث البعث) والعمل على إعلان برنامج زمني لانهاء الاحتلال.

ثانياً - يتحمل العرب مسؤوليات تاريخية تجاه اشقائهم العراقيين، بترجمة القيم الوجدانية والاخلاقية التي يشتركون معهم فيها، بما يوفر فرص الانطلاق بنهضة جديدة ترفع أثقال العاطفة القومية التي خلفت الاحباطات والهزائم والنكبات. ونعتقد أن بلداناً عربية مركزية مهمة قادرة على معاونة الشعب العراقي للخروج من محنته الحالية، مثل مصر ذات الثقل المعنوي الخاص في الأمة، والسعودية بمكانتها الاسلامية، وسوريا ذات التاريخ العروبي، والأردن التي تحملت ثقلاً يتلاءم مع كبرياء زعامتها في حماية عمق محنة الشعب العراقي. وأن تنشط تلك الدول من دون حساسيات لمعاونة العراقيين في العملية السياسية الجارية، بما يعزز وحدتهم واستردادهم لسيادتهم. وهذا يتطلب من الحكومة المؤقتة تقديم خطاب سياسي واعلامي متوازن والتزام عملي يعبران عن صلة العراق بمحيطه العربي، وايقاف الأضرار التي ألحقتها نزعة العزل والانكفاء التي اندفعت بقوة، خصوصاً بعد التاسع من سبتمبر 2003.

كما ينتظر العراقيون أن توقف الجارة إيران جميع أنشطة أجهزتها وشبكاتها السياسية والاستخبارية المنتشرة في العراق، لما تشكله من مخاطر جدّية على الأمنين السياسي والمدني العراقيين. وان تتصرف تركيا بحكمة الجار المسالم انتظاراً لمصالحها المستقبلية في العراق.

ثالثاً ـ مع أن تشكيلة الحكومة المؤقتة لم تتحرر من مرض المحاصصة الطائفية الذي توطن في فعاليات القوى المتسيّدة للعملية السياسية والتي تكرست في مجلس الحكم المنحل ووزارته، ولا نتوقع تعافي هذه القوى منه، وستظل أخطاره أكثر من أخطار الاحتلال الأجنبي على مرارته. ولكن الامتحان العسير الذي تدخل هذه القوى دورته مجدداً وخلال أقل من عام في حكومة «ملء الفراغ» شاق ومرير، ودرسه الأول إن أرادت هذه القوى والشخصيات اكتساب مكانة بين الناس هو الاستجابة لمتطلباتهم في إعادة الأمن إليهم، واستعادة إرادتهم السياسية، ووضع جدول واضح للاحتلال والسيطرة على ثروات البلاد، وعدم الدخول في اتفاقيات ترهن سيادة البلد واستقلاله. والابتعاد عن ذرائع لا تقوى أمام استحقاقات وطنية تاريخية مثل الاستناد الى «قانون الفترة الانتقالية والاستظلال بالقوات الاجنبية لتحقيق الأمن، والانشغال بتصريف المكاسب الشخصية وولاءاتها في التعيينات الحكومية» .. فشعب العراق غير مستعد لمنح مزيد من الوقت لمن لا يتمكن من تحقيق حماية لأمنه واستعادة مقدراته .. الخيارات مفتوحة أمام وجوه السلطة الانتقالية الجديدة لإثبات مكانتها لدى الشعب، وتسجيل موقف تاريخي لها، أو الاحتراق بلهيب نار العراق.

* كاتب وسياسي

عراقي مقيم في لندن