النافخون في الجمر

TT

لم أعرف أن الفنان المصري المنتصر بالله مسيحي، وبقيت أعواماً طويلة قبل أن أعرف أن سناء جميل مسيحية، وحتى الآن لا أستطيع أن أحدد ديانة كاتب أو فنان، ولم أسع يوماً لمحاولة معرفة الهوية الدينية، وأظنني لست غريباً في هذا الأمر، وأظن أن كثيرين مثلي لم يشغلهم هذا الموضوع، فكل هؤلاء على مر تاريخ الفن والأدب والسياسة هم مبدعون ساهموا في رسم وجه هذه الأمة.

هذا لا يعني أن المجتمع عاش ويعيش في حالة مناعة مستمرة من الانحدار الى ما يتناقض مع مفاهيم التعايش والامتزاج، بل إن أزمات عديدة مر بها المجتمع ودفع الثمن غالياً في بعض المراحل، وكان صمام الأمان دائماً أن طبيعة هذا المجتمع لا تقبل الوصول الى مرحلة الصدام الكبير، أو مرحلة نفي الآخر ومحاولة القضاء عليه، أيضاً ظلت النخبة المثقفة أكثر وعياً وإدراكاً لمخاطر الانزلاق الى حدود الصدام أو الانزلاق الى مرحلة النفخ في خلافات قابلة لأن تستعر لو لم يتم التعامل معها بشكل يمتلك وعياً بأهمية استمرار هذا المجتمع قوياً متماسكاً، هذه الصورة أخشى أن البعض يحاول أن يغير منها الآن، وللأسف يساهم في هذه المحاولة جزء من النخبة، وأسوق اليوم مثلاً لما أعني عندما استخدم تعبير «تديين» عناصر المجتمع، فقد قرأت وقرأ معي كثيرون عن ذلك المهرجان السينمائي الذي أقامته إحدى الجمعيات الأهلية المسيحية بمدينة الاسكندرية «للفيلم المسيحي»، وفي هذا المهرجان الذي خصص لعرض الأفلام المسيحية، تم تكريم عدد من الفنانين مثل سناء جميل والمنتصر بالله ويوسف داود، والغريب أن يتم هذا التكريم لصفتهم الدينية، ومشاركتهم في الأفلام المسيحية.

لم تمر مياه كثيرة في النهر قبل أن يخرج علينا طرف آخر بخبر مفاده أن مهرجاناً غنائياً للأغنية الدينية الاسلامية في طريقه قريباً للنور (هكذا؟).

إذن مهرجان للفيلم المسيحي يكرم فنانين مسيحيين، بعده بأسابيع مهرجان للأغنية الدينية الاسلامية، وبالطبع سوف يكرم فنانين مسلمين. أي عبث هذا؟ الخطورة ان القائمين بهذا العبث محسوبون على النخبة التي كانت دائماً هي صمام الأمان في وجه محاولات «تديين» المجتمع في شكل صدامي، الآن يقوم جزء من هذه النخبة بعملية فرز للمجتمع على أسس دينية، والخطورة هنا أن عملية الفرز هذه تخطت الحدود لتصل الى منطقة تتعامل بشكل مباشر مع القطاع الأكبر من المجتمع وتساهم في تشكيل وعيه وإدراكه، وبالتالي ردود فعله تجاه ما يواجهه، وهذه المنطقة هي الفنون.

لا أميل الى توجيه الاتهامات، ولا الى إساءة النوايا، ولكن أظن أن هؤلاء القائمين على مثل هذه الأمور يقومون بوضع قنابل موقوتة ستنفجر في وجوههم، وسيدفع المجتمع كله ثمناً لها، ولا يكفي هنا النوايا الحسنة التي هي في أحيان كثيرة ترسم حدود الطريق الى جهنم. كل المبدعين هم أبناء هذا الوطن، أضافوا بإبداعهم، وحفظهم الوطن في ذاكرته لإضافاتهم وإبداعهم، وليس لديانتهم، ولا أظن أن هذا التوجه الديني الذي يتبناه جزء من المحسوبين على النخبة في تديين المجتمع، ليس سوى نفخ جمرات لو استمروا فيها فإن اشتعالها سوف يكون أمرا جد خطير.

سوف أستمر أستمع الى أم كلثوم، وأستمتع بيوسف وهبي، وأضحك مع المنتصر بالله، ونجيب الريحاني وعلي الكسار، وأنقد يوسف شاهين، وأشاهد أعمال داود عبد السيد وخيري بشارة ومحمد خان وعلي بدرخان، وسوف أظل أقرأ لطه حسين والعقاد ولويس عوض وطارق البشري، من دون أن أتوقف لحظة لأبحث عن خانة الدين في بطاقات هويتهم.

[email protected]