الحلفان المقدسان

TT

الحق على أبي حيان التوحيدي فهو الذي ورطني بمشاهدة الحلقة الأخيرة من مسلسل «الاصدقاء» الاميركي مرتين فمنذ الثانوية العامة أحفظ أقواله عن الصداقة والصديق عن ظهر قلب وأضبط نفسي أحيانا متلبسا بترديدها بمثابرة طالب نجيب وكأن معلم اللغة العربية سيمتحنني بها غدا.

المرة الأولى في الولايات المتحدة الشهر الماضي ووقتها قلت لا يمكن ان تكون هذه الضجة كلها ـ على فاشوش ـ فلا بد ان يكون في هذا المسلسل ما يشد كل هذه الملايين كل هذه السنين ويجعل من حلقته الأخيرة حدثا له طنين.

وفي المرة الثانية في بريطانيا منذ أسبوع تلبستني الأخت موضوعية وقلت ربما ظلمت المسلسل وحكمت عليه بالسخافة من خلال ساعة عابرة ثم من نحن الذين ننتقد الماء الزلال لنحدد للناس ما يجب وما لا يجوز مشاهدته ونحكم بالسخافة على مسلسل أعجب نصف الكرة الأرضية؟

ولا شيء في الحلقة الأخيرة غير ولادة التوأم من رحم بالأجرة وعودة راشيل ـ زوجة براد بيت الحالية ـ الى حبيب العمر الذي اكتشفت في اللحظة الأخيرة انها تحبه وتريد البقاء معه. يعني لامؤاخذة فيلم هندي لكننا نضحك على الهنود حين يصوغون هكذا نهايات ونفغر أفواهنا دهشة حين نشاهدها في فيلم أو مسلسل غربي ويزاود بعضنا على السخافة ويبررها فتسمع هنا وهناك عبارات مصوغة من قاموس مبهور تثني على انتصار الرومانسية في أشهر مسلسل أميركي.

وفي هذه لا تستغرب وتذكر الكاتب الفرنسي سيرج لاتوش، الذي قال عن حتمية الانبهار بالحضارات الغالبة في كتاب «تغريب العالم» لو كانت الهند هي القوة العظمى في هذا القرن لكنا نصصنا في المواثيق الدولية على ضرورة إحراق المرأة حية مع جثة زوجها الميت كجزء من حقوق النساء ولكان اهتمامنا بحقوق البقر أكبر من اهتمامنا بحقوق الانسان.

والمبالغة عند لاتوش وغيره ضرورية أحيانا وبلاغية دوما لتثبيت الفكرة فمع الانبهار يصعب النقد ولا تظل هناك غير فراغات سرابية لا يجوز ان تملأ بغير الإعجاب ولعل الاعجاب بمسلسل الأصدقاء كان لموضوعه أكثر منه لطرافة أحداثه التي تدور في شقة يتقاسمها ستة أصدقاء سلموا مفاتيحها جميعا مع نهاية المسلسل. فالصداقة في أذهان الناس كالحب مرغوبة ومطلوبة ومحبوبة دراميا وواقعيا وجميعنا نبحث عنها باستماتة كما نبحث عن الحب، فالصديق يمكن ان يكون في بعض الحالات كالحبيب توأم روح ومن يفشل في هذا او ذاك يكتفي بتوأمة روحه مع أخ أو أخت فكأن الروح لا تطمئن الا ان كان هناك من يؤنس وحدتها ويمكن ان تعود اليه في الملمات والخطوب وساعات الوحدة والشقاء.

ان العثور على الصداقة الحقيقية أصعب من العثور على الحب فمع وعود العشق والغرام تظل شهيتنا مفتوحة للتجريب بينما نحبط في الصداقة من فشل تجربة او اثنتين ثم ننكفئ على ذواتنا لنسألها أين الخطأ..؟

ويمضي وقت طويل قبل ان نكتشف ان الصداقات الأعمق هي تلك التي نشكلها ونبلورها في صدر الشباب وعلى مقاعد الدرس وهذه المعلومة كانت واضحة في ذهن الذين صنعوا المسلسل، فالأصدقاء جميعا في شرخ الشباب حيث الهوى والأحلام والمثاليات والآفاق المفتوحة على كل الجهات والآمال العراض.

وبمسلسلات وأفلام وبدونها تظل ثنائية الصداقة والحب تتحكم في سلوك الأغلبية ونظل نبحث عنهما من المهد الى اللحد، ونحس بالحزن ان غابا عن حياتنا فهما حلفان ضد الوحدة وعوادي الزمان وكلما تقدم الانسان بالعمر أحس أكثر بأهمية تلك الاحلاف المقدسة التي تعطي للحياة الباردة بعض الدفء والنكهة الحانية وتلون قتامتها وتعطرها بالنعنع البري والياسمين وقطوف البيلسان والريحان.

[email protected]