يا لوعتي يا شقايا

TT

مرّ إبراهيم بن أدهم على رجل حزين مهموم، فقال له: إني سأسألك عن ثلاثة فأجبني.

فقال الرجل الحزين: نعم.

قال إبراهيم: أيجري في هذا الكون شيء لا يريده الله؟

فقال الرجل: لا.

قال إبراهيم: أفينقص من رزقك شيء قدّره الله؟

فقال الرجل: لا.

قال: أفينقص من أجلك لحظة كتبها الله؟

فقال الرجل: لا.

قال إبراهيم: فعلام الحزن والهم؟!

لا أعلم من هو ذلك (الحكيم الإمعة) الإبراهيم بن أدهم هذا، ولا ما هو اعتباره في التاريخ.. وأتمنى أن يوسع مداركي أحد القراء ويعطيني نبذة عن حياته، رغم أنني لست متحمساً لذلك كثيراً.

واسمحوا لي أن أقول، أو لا تسمحوا لي (بصركم): إن أسئلة السيد بن أدهم كانت في منتهى السذاجة والغباء (والتررللية).. ولو سألتموني لماذا؟! لقلت لكم: لأن إجاباتها كلها محسومة سلفاً، وإنني أحلف (بالثلاثة أيمان) المغلظة، أن ذلك الرجل الحزين يعرفها بالتمام والكمال، ولكن ابن أدهم أراد أن يتفلسف ويستعرض (ويبرم ذيله)، فقطع على المسكين حبل حزنه الإيجابي.

إن من لا يحزن حزناً حقيقياً، من الصعب أن يفرح فرحاً حقيقياً، والحزن الذي أعنيه هو حزن المكابدة، والمساءلة، والذود عن حياض الحياة في أبسط وأعقد شروطها.

وما أوجع المسلمين في كل تاريخهم، وضربهم في مقتل، وما أنزلهم إلى أسفل سافلين، إلاّ مثل نصائح السيد بن أدهم ومن هم على شاكلته، وهي بالتأكيد ليست بنصائح بقدر ما هي مثبطات.

طبعاً الكون يجري بإرادة الله كنّا أو لم نكن، كما أن الله تعالى هو الرزّاق، وما هي تلك العبقرية والفتاكة في اكتشاف ذلك؟ وكذلك قوله لن ينقص أجل إنسان دقيقة واحدة، طبعاً بالتأكيد إذا ما ابتلاه الله بمرض عضال، أو اكتسحته شاحنة وهو يمشي على الرصيف، أو مات بسكتة قلبية في غرفة نومه.. ولكنه عز وجل قال للإنسان بطريقة غير مباشرة: أسعى يا عبدي وأنا معاك، ومعنى أسعى أي اعمل، وفكر، وناقش، وتفاعل، واحزن، و(تلوذع)، واجبر نفسك على التجريب في كل ما يخطر على بالك - على شرط ألاّ تتجاوز الحدود ـ وهذا ما فعله الغرب، رغم ما تجاوز القلة منهم الحدود ـ وهذا ما عجزت عنه (بيضة) المسلمين من تاريخ ابن ادهم إلى تاريخ ابن السديري.. وسبق أن قال الشاعر احمد شوقي إن (الدنيا تؤخذ غلابا).. ولم نأخذها نحن لا غلابا ولا (ما يحزنون)، وإنما أخذناها صياحا ونحن (بطاحاً).. فعلام ابن ادهم هذا الذي اقض مضجعي ينهانا عن الحزن، والحزن هو الذي جعل (سقراط) يتجرع السم وهو يعلم به، وجعل (أرشميدس) يخرج من الحمام عارياً وهو يهتف (وجدتها وجدتها)، وهو الذي جعل روميو يموت كبداً تحت بلكونة جولييت، وهو الذي أرغم (فان غوخ) على أن يقطع أذنه، وهو الذي جعل من (تولستوي) صاحب الحسب والنسب، أن يكتب رواية (الحرب والسلام)، وفي نفس الوقت يرتق أحذية المعدمين.

لولا أن لهذه المقالة حدا معينا، لتكلمت عن الحزن أكثر، رغم أنني فرح جداً في هذا اليوم، ورغم أن الله سبحانه وتعالى (لا يحب الفرحين).. فيا (لوعتي يا شقايا).