مسيرة عسيرة .. ونهاية لا تليق برجل تاريخي!

TT

أليست مفارقة أن تصدر بحق مروان البرغوثي، أصغر رموز الصف الثاني في القيادة الفلسطينية، كل هذه الأحكام الاسرائيلية الجائرة بينما يشتد ضغط أضلاع المعادلة على ياسر عرفات الذي هو أكبر، عمراً وقدراً، رموز الصف الاول في هذه القيادة لحمله على التنحي والاستقالة أو القبول على الأقل بأن يتخلى عن صلاحياته ويكتفي بمجرد مكانته الرمزية؟!

لقد اشتد ما يمكن تسميته تزاحم الأجيال، في منظمة التحرير وفي السلطة الوطنية وفي الثورة الفلسطينية، بصورة عامة، منذ العودة من رحلة الشتات والمنافي في أعقاب إبرام صفقة اتفاقيات «أوسلو» الشهيرة، لكن ومع ذلك فإن ياسر عرفات بقي خطاً أحمر، وبقي هذا التزاحم بعيداً عن رصيفه ودائرته القيادية.

صحيح ان اسم مروان البرغوثي الذي صدرت بحقه مؤخراً أحكام إسرائيلية جائرة قد قفز الى الواجهة أولاً بعد انطلاق الانتفاضة الثانية، انتفاضة الاقصى، ثم بعد اعتقاله مباشرة ،لكن مسألة استبدال أبو عمار وتنحيه لم تطرح، لا داخلياً ولا خارجياً، الا في الفترة الأخيرة وذلك رغم ان الأميركيين والإسرائيليين كانوا قد تحدثوا عن هذا الأمر خلال السنوات الثلاث الأخيرة أكثر من مرة.

والآن وقد تمَّ فتح هذا الملف، بعد تلاحق المعلومات عن ان مصر، التي تقوم بدور رئيسي لترتيب الإنسحاب الإسرائيلي المفترض من قطاع غزة وترتيب الأوضاع في هذا الجزء من فلسطين بعد هذا الانسحاب، أخذت تطالب علناً بتنحي ياسر عرفات بصورة جزئية أو كلية، فإنه يمكن التذكير بأن الرئيس الفلسطيني كان قد تعرض لما يتعرض له الآن مرات عدة منذ أن أصبح رئيساً لمنظمة التحرير الفلسطينية في عام 1968، آخرها وأشدها وطأة كانت خلال حصاره مع قواته في طرابلس اللبنانية في عام 1983.

كانت سوريا في عهد الرئيس الراحل حافظ الأسد قد استشاطت غضباً لأن ياسر عرفات اختار الابتعاد عنها، بعد إخراجه وإخراج منظمة التحرير من بيروت كنتيجة للغزو الإسرائيلي الشهير في عام 1982، ونقل مقراته ومقرات منظمة الرئيسية الى العاصمة التونسية، ولهذا فإن دمشق معتمدة على بعض التنظيمات والمنظمات والفصائل الفلسطينية بادرت الى رفع راية استبدال منظمة التحرير «العرفاتية» بمنظمة جديدة، لكنها لم تطرح ضرورة استبدال الرئيس الفلسطيني إلا في فترة لاحقة من ذلك العام.

في بدايات صيف عام 1983 وبعد ان انحصر نفوذ ياسر عرفات في طرابلس، في الشمال اللبناني، بعد إخراج باقي ما تبقى من قواته من منطقة البقاع، فاتحت سوريا أولاً خليل الوزير (أبو جهاد)، أقرب المقربين الى الرئيس الفلسطيني وأكثر القادة الفلسطينيين إخلاصاً له بإمكانية استبدال «أبو عمار»، ثم بعد ذلك فاتحت بالأمر ذاته خالد الحسن رحم الله الاثنين.

وبالطبع فإن جواب الاثنين كان واحداً وهو انه لا بديل لياسر عرفات لا الآن ولا في المستقبل القريب، وان هذا الرجل الذي يحمل في صدره كل أسرار التاريخ الفلسطيني المعاصر يحظى بمكانة دولية مميزة ويحظى بالتفاف وتأييد غالبية الشعب الفلسطيني، وان استبداله سيؤدي الى فوضى عارمة داخل فلسطين وخارجها وأنه الوحيد القادر على ضبط الأوضاع والمرور بين ألغام الاستقطابات والصراعات العربية والدولية.

إن تلك المحاولة لم يكتب لها النجاح ولو في الحدود الدنيا رغم الانشقاق الذي أُفتعل داخل حركة «فتح» ورغم إخراج ياسر عرفات وقواته من طرابلس اللبنانية بحماية فرنسية - أميركية مشتركة، وهنا فإنه لا بد من الاشارة الى أن العالم كله ومعه معظم الدول العربية وقف ضد تلك المحاولة وكان الرأي السائد دولياً وعربياً أنه لا يوجد غير هذا الرجل من بين كل القادة الفلسطينيين مَنْ مِنْ الممكن ان يقود الشعب الفلسطيني الى السلام ويوقع معاهدة صلح مع الدولة الإسرائيلية.

وحقيقة ان هذه القناعة الدولية والعربية التي حالت دون استبدال ياسر عرفات في محاولات بدايات عقد الثمانينات من القرن الماضي تأكدت صحتها عندما اندفع الرئيس الفلسطيني، الذي أنهكته وأنهكت منظمته تطورات ما بعد الخروج من بيروت والذي جرَّ عليه موقفه تجاه غزو الكويت في عام 1990 ويلات كثيرة ، نحو مؤتمر مدريد الشهير بحماسة منقطعة النظير والذي لم يرف له جفن عندما وقع اتفاقيات أوسلو وملاحقها في حديقة البيت الابيض بعد ذلك بنحو ثلاثة أعوام.

كان ياسر عرفات في تلك الـمرحلة الصعبة هو «لأخ القائد العام» بالنسبة لحركة «فتح» والفصائل الفلسطينية، وهو الرمز والأب وكبير القوم بالنسبة للشعب الفلسطيني وهو القادر الوحيد على لملمة الحالة الفلسطينية و«الشر».. الذي لا بد منه بالنسبة لمعظم الدول العربية، وهو الوحيد القادر على الإمساك بقلمه والتوقيع مع إسرائيل على اتفاقية سلام يتخلى بموجبها عن معظم فلسطين بالنسبة للاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة والصين وفرنسا وكل الدول الأوروبية.

ولقد ثبت ان كل هذه التقديرات كانت في مكانها، فلقد مرت عملية السلام بكل مراحلها ومحطاتها بأسهل ما كان متوقعاً. والحقيقة ان ياسر عرفات أثبت في البدايات انه القائد الفلسطيني الوحيد القادر على توقيع اتفاقية سلام مع إسرائيل بمواصفات اتفاقيات أوسلو وما بعدها، ولهذا فقد انفتحت امامه أبواب البيت الأبيض وبات زائراً دائماً للعاصمة الاميركية. كان هذا هو وضع عرفات حتى آخر أيام الرئيس الاميركي السابق بيل كلنتون وحتى انهيار كامب ديفيد الثانية و«واي ريفر» و«طابا» حيث تلاحقت الأحداث بعد ذلك بالصورة المعروفة الى ان وقعت كارثة الحادي عشر من سبتمبر ( أيلول) وانطلقت الانتفاضة الجديدة، انتفاضة الأقصى، وجاء أرئيل شارون بكل قسوته ورعونته وعدائه للسلام الى الحكم فحدث هذا الذي تتواصل حلقاته حتى الآن.

حتى بعد كارثة الحادي عشر من سبتمبر وحتى بعد ان أصبح استقبال ياسر عرفات في البيت الابيض في غاية الصعوبة، فإنه كان بالإمــكان معالجة الأمور لو ان «حماس» كانت أكثر تقديراً للوضع الدولي المستجد بعد هذه الكارثة ولو أنها لم تقم بسلسلة العمليات الانتحارية التي أدت الى حسم الموقف الاميركي نهائياً لمصلحة شارون وضد الرئيس الفلسطيني. لقد كان شارون هو المستفيد الوحيد من كل هذه التطورات، فبحجة ان ياسر عرفات هو الذي يقف خلف العمليات الانتحارية التي نفذتها «حماس» وبعض تنظيمات المعارضة الاخرى استطاع رئيس الوزراء الإسرائيلي إقناع الأميركيين بضرورة إنهاء حمايتهم المعنوية للرئيس الفلسطيني وإقناعهم بأنه لم يعد طرفاً مقبولاً في عملية السلام. والحقيقة ان رئيس الوزراء الإسرائيلي لا يريد سلاماً حقيقياً وأن هدفه ليس إنعاش العملية السلمية وإنما قطع الطريق على قيام الدولة الفلسطينية.

والآن وعندما تبادر مصر، بدعم الاتحاد الأوروبي وروسيا والعديد من الدول العربية الى هذه الخطوة وتطلب من ياسر عرفات ان يقتدي بالزعيم الأفريقي نلسون مانديلا وان يتنحى ويترك الأمور التنفيذية وأمور السياسة اليومية لغيره فلأنها أدركت ان الاميركيين لا من خلال هذه الإدارة ولا من خلال أية إدارة أخرى لن يتعاملوا وعلى الإطلاق مع هذا الرجل، وان موقف الإسرائيليين بيمينهم ويسارهم ووسطهم وشرقهم وغربهم هو هذا الموقف.

إن المسألة هي مسألة فلسطين والشعب الفلسطيني وعملية السلام وإقامة الدولة الفلسطينية، والمؤكد ان مصر، ومعها العديد من الدول العربية، لا تستهدف ياسر عرفات شخصياً وأنها إذْ تـُطالب الرئيس الفلسطيني بالتنحي ولو جزئيا،ً فلأن قناعتها المستندة الى هذه المعادلة الكونية المتجسدة الآن انه لا يمكن ان يتخلى الاميركيون عن مواقفهم هذه ويرموا بثقلهم في اتجاه تحريك الأمور على المسار الفلسطيني ما لم يتغير واقع القيادة الفلسطينية وما لم يجرِ تركيب السلطة الوطنية مجدداً بما يتلاءم مع المعطيات المستجدة فالمسألة ليست شخصية على الإطلاق وهي بالتأكيد ليست إستهدافاً لرجل تاريخي قاد نضال الشعب الفلسطيني على مدى نحو نصف قرن من الأعوام.

... إنها مسيرة عسيرة وإنها نهاية لا تليق برجــــل تاريخي، ولعل الأفضـل لـ «أبو عمار» حتى يبقى رمزاً تاريخياً أن يأخذ قراره بشجاعة وفي اللحظة المناسبة .