كيف ننقذ الجهاد من الإرهابيين؟

TT

استمرارا في حديثنا السالف عن نقد ذرائع القاعدة الفقهية في ارهابها نتوقف عند هذه الآية القرآنية، فقد قال الله تعالى في كتابه العزيز: «فإذا انسَلخَ الأشْهُرُ الحُرُمُ فاقتُلوا المُشركينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وخُذُوهُمْ واحْصُرُوهُمْ واقعُدُوا لهُمْ كُلّ مَرْصَد...» عادة ما يستدل أصحاب الفعل المتطرف أو بالأصح من يقف من ورائهم ويسوغ لهم إثمهم بهذه الآية التي دُرج على تسميتها بآية السيف ثم زُعم أنها قد نسخت كل ما قبلها من آيات في المسالمة والصبر على أذى الأعداء والعفو عنهم، والحق أن هذا الكلام هو محض اجتراء على القرآن الذي جاء بأنبل المبادئ وأرشدها، بل إن فيه تعطيلا صريحا لأحكامه.

فآية السيف إنما تنصب على المشركين المعادين وليس أهل الكتاب، ولا يعادي الإسلام اليوم مشركون وإنما مجمل اختلافاتنا مع أهل الكتاب من اليهود والنصارى، إلا أن يزعم أحد بأنه قد شق الصدور واطلع على السرائر فعرف المؤمن من المشرك فهذا ما لا يدعيه عاقل، ثم كيف لا يكون التفاتنا إلى الآية التالية لآية السيف والتي ما إن نقرأها حتى نرى سماحة الإسلام وحكمته وقد تجسدت في أقوى مراميها، يقول الله تعالى:«وإنْ أحَدٌ مِّنْ المُشْركِينَ اسْتَجَارَكَ فَأجِرْهُ حَتّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ ثُمّ أبْلِغْهُ مَأمَنَهُ ذَلِكَ بأنّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُون»، فهل استوعبنا كلمة مأمنه؟!

جاء في تفسير المراغى «فأجره وأمنه على نفسه وأمواله لكي يسمع أو لكي يراك، فإن هذه فرصة للتبليغ والاستماع»، فإن اهتدى وآمن عن علم واقتناع فذاك، وإلا فالواجب أن تبلغه المكان الذي يأمن به على نفسه ويكون حراً في عقيدته، حيث لا يكون للمسلمين سلطان عليه». وفي تفسير ابن كثير:« والغرض أن من قدم من دار الحرب إلى دار الإسلام في أداء رسالة أو تجارة أو طلب صلح أو مهادنة أو حمل جزية أو نحو ذلك من الأسباب، وطلب من الإمام أو نائبه أماناً أعطي أماناً ما دام متردداً في دار الإسلام، وحتى يرجع إلى مأمنه ووطنه، فإنما شُرع أمان هؤلاء ليعلموا دين الله وتنتشر دعوته بين عباده».

الإسلام لا يجيز ولا يبيح قتل النفس لمجرد أنها تدين بغير الإسلام، وإنما يأذن في جهاد من يخالفوننا في الدين إذا اعتدوا علينا أو وقفوا عقبة في سبيل الدعوة الإسلامية وانتشارها، فإن تحول الجهاد عن غايته إلى فتنة في الدين وترويع للنفوس وتشويش لها في العبادة فقد انتفى مقصوده الأسمى الذي أريد به، لأن عبادة الناس لربهم هي الأصل، والجهاد ما هو إلا فرع لها، بدليل أن الأسباب التي جاءت بها آيات القتال في القرآن الكريم قد كانت محصورة في أمرين: إما لدفع ظلم أو قطع فتنة، فمشركو عهد الرسول صلى الله عليه وسلم حين أمعنوا في إيذاء المسلمين أوجب الله على المسلمين قتالهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله «وَقَاتِلوا فِي سَبيل اللهِ الّذِينَ يُقَاتِلونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إنّ اللهَ لا يُحِبُّ المُعْتَدِين». وقد جاء عن ابن عباس أن من جعل الأمر بالقتال في هذه الآية على عمومه ولو مع انتفاء الشرط فقد أخرجه عن سياقه وحمّل الآية ما لم تحتمل..

فأين كل هذا من تفجيرات الرياض والخبر والحوادث الإرهابية التي تضرب السعودية وكان آخرها قتل مصور هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) الايرلندي وإصابة الصحافي البريطاني! كيف نصل الى أن نشوه المقصود بآيات الله إلى هذا الحد، فنعطي الذريعة لأعداء الدين أن يتقوّلوا على ديننا الذي هو أعلى نظام في الكون! هل كُتب على أمة محمد صلى الله عليه وسلم أن يكون حظها من العلم بقرآنها مجرد قراءة آياته من دون أن تهتدي لعظمته وأغراضه؟!

ولا يُفهم من كلامنا هذا أننا ندعو إلى تعطيل فريضة الجهاد وإنما يجب أن نعي أن مشروعيتها لا تتحقق إلا بتوافر الأسباب والشروط المقيدة لها، فإراقة الدماء واستحلال الأموال قد جعل الله حرمتها أعظم من حرمة الكعبة كما جاء عن رسوله الكريم صلوات الله عليه وسلم، بل لقد بلغ من رعاية الإسلام لحرمة ممتلكات أهل الكتاب أنه قد منع إتلافها حتى وإن تضمنت خمراً وخنزيراً، ويغّرم المسلم قيمتها بإفتاء فقهاء الأحناف. فإن كان هذا حال فقهاء الإسلام في خمرهم وخنزيرهم المحرمة في شرعنا، فكيف إذن بأرواحهم المنصوص علينا احترام آدميتها ووجودها! وإذا كانت إرادة الله قد ارتضت لهؤلاء الحياة على كل ما هم فيه.

من نحن حتى نخالف مشيئة الخالق فنقرر قتلهم! والسؤال: لم كل هذا الاستعلاء والانزلاق في متاهات الغرور والاستهانة بالآخرين؟ أيكون من فرط إيمان المرء أن تصيبه جريمة إبليس الأولى حين قال «أنا خير منه»؟!

ثم إذا كان توجيه الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ومن بعده الإمام مالك باتفاق جمهور المسلمين بتحريم قتل النساء والشيوخ والصبيان والرهبان، وهو ما يُعرف في عصرنا بالمدنيين باعتبارهم ليسوا من المقاتلة، فنكون بهذا الاستثناء أمام أكبر دليل على أن الجهاد لا يكون إلا دفاعاً عن الدعوة من العدوان، وليس لمحق كل مخالف للدين، وإلا فكيف يُفسر تركهم أحراراً وخاصة الرهبان منهم؟! فوسائل القهر لم تكن يوماً من طرق الدعوة إلى الإسلام، وإنما هي طواعية الإيمان: «ولو شَاءَ رَبُكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأرض كُلّهُمْ جَمِيعاً أفَأنتَ تُكْرهُ النّاسَ حَتّى يَكُونُوا مُؤمِنِين».

وكما أن هناك آيات تخاطب الأفراد فكذلك الأمر في آيات أخرى لا تتوجه في خطابها إلا للدولة ممثلة في سلطتها الحاكمة ـ أولى الأمر ـ فلا ينبغي أن يحصل لبس فيما بينهما وإلا عمت الفوضى وانهار النظام وانتشر الفساد، فالمناداة بالجهاد تكون للحاكم وليس لآحاد الرعية أو من يسمون بالجماعات الإسلامية. ولو أن آيات القصاص أو السرقة في القرآن كان تطبيقها موكلا للأفراد، لعرفنا قيمة ما تعنيه مفردات كالأمن والاستقرار! وكذا ينطبق الحال على جميع آيات القتال والدعوة إلى الجهاد. أما أن يقول قائل بأن الحاكم وأهل الحل والعقد لم يأمروا بتنفيذ الحكم فوجب عليّ أن أقوم به بنفسي، فهذا مخالف لشرع الله إن كانت مرضاته عز وجل هي الغاية، فالقاعدة الفقهية المعروفة تنص على أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، فإن ترتب نتيجة هذا الجهاد من المفاسد ما يربو على مصالح الدولة بمواطنيها، فمن نفس المنظور يكون الجهاد غير مشروع، بل يكون إصراراً أعمى وتأويلاً فاسداً للنصوص الشرعية ولقراءة الواقع بمعطياته، إذ كيف لا يكون هناك اعتبار بالنتائج وقد نهى الله عن سب آلهة المشركين، وهي «مصلحة» لأن من نتائجها سب الذات الإلهية، وهي «مفسدة»: «وَلا تَسُبّوا الّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبّوا اللهَ عَدْوَا بغَيْر عِلْم».

يقول ابن تيمية: «إن الحسنة تترك في موضعين: إذا كانت مفوتة لما هــو أحسن منها، أو مســـــتلزمة لسيئة تزيد مضرتها». ألا يعني هذا الكلام من ابن تيمية أن توازن القوى واختــــيار الزمان والمكان المناسبين للمواجهة ومعرفة مقاصـــــد الشريعــــــة مع تـــــقدير الظروف، من الأمور المقدمة عند اتخاذ قرار حاسم كالجهاد؟!

ولكي نُقدر أهمية هذا الطرح يكفي أن نضيف أن الجهاد لم يُقتصر على السلاح وحده، بل لقد قُدم الجهاد بالمال على الجهاد بالنفس في سياق جميع الآيات التي أتت على ذكر الجهاد في القرآن الكريم. أيحق لنا بعدها أن نغفل جهادنا بالمال أو نقلل من شأنه، والله تعالى يقول: «الّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيل اللهِ بأمْوَالِهمْ وأنْفُسِهمْ أعْظَمُ دَرَجَةً عِنْد َاللهِ وَأوْلئكَ هُمُ الفَائِزُون»؟!

نعم لقد ظُلم الجهاد الإسلامي، وحُصر في السفك والسيف وإجبار الناس على الإيمان بالقوة، بينما هو قانون إلهي شامل لحماية الدين عند الاعتداء عليه أو مقاومة انتشاره مع بذل النفيس ومقاومة الشهوات في ظل الاحتفاظ بحرية المعتقد وأصحابه.