ليبيا: تناقضات مرحلة الندم والاعتذار

TT

لم تكن العلاقة طيبة بين صدام والقذافي. كانت مزيجا من الغيرة الشخصية والمنافسة على وراثة شعبية عبد الناصر. في قمة «استرضاء» صدام التي عقدت في مايو من عام 1990 قبل ثلاثة أشهر من غزوه الكويت، راح رئيس العراق باعتباره رئيسا للمؤتمر الذي عقد في عاصمته، يسخر من الرئيس الليبي كلما سمح له بالكلام سائلا اياه: «قل لي، أخ معمر، ما هو اسم دولتك بالكامل؟».

في المقابل، كان القذافي لا يقصِّر في المزايدة العلنية المحرجة لصدام. فقد عقد حلفا مع ايران لم تسع هي إليه خلال حربها مع العراق، معتبرا نفسه على صلة «قرابة» مع الخميني! ثم لم يكف قط عن توبيخ صدام مطالبا بحقوق الأكراد. وقد بلغ اعجاب الكرد به الى درجة ان زعيما كرديا محنكا كمسعود البرازاني كان حاضرا الى جانب جورج حاوي زعيم الحزب الشيوعي اللبناني حفل تنصيب القذافي في عام 1986 قائدا لـ«الثورة العالمية للقوى التقدمية». وكان هدفها ضرب المصالح الاميركية، ونشر أفكار القذافي، و... اسقاط النظام المصري.

إذا كانت العلاقة مع صدام والعراق على هذا النحو من السوء، فلماذا حاول القذافي النيل من دول الخليج، والسعودية بالذات، خلال القمم التي عقدت في عمان وبيروت وشرم الشيخ وسبقت غزو الاميركيين للعراق؟

كان القذافي آنذاك يمر بمرحلة عذاب نفسي، مرحلة ندم ومراجعة واعتذار لأميركا وبريطانيا عن التحالف مع السوفييت خلال الحرب الباردة. لكن كان يجد في منبر القمة مسرحا إعلاميا مناسبا للمزايدة أمام العرب على دول الخليج في موضوع العراق.

كان الأدب السعودي يعفُّ عن الرد، ملتزما بالرغبة التقليدية بتجنب الدخول في مهاترات سياسية وإعلامية تعمق الخلافات العربية، وتزيد في مرارة الشارع العربي. لكن عندما راح القذافي بأسلوبه المسرحي يلوم القيادة السياسية السعودية على تصميمها على الدفاع عن نفسها وبلدها، معتمدة قواها الذاتية والإرادة الدولية بعد احتلال صدام الكويت، لم يعد بإمكان الأمير عبد الله بن عبد العزيز الصبر على الهراء، فكان الرد الفوري المفحم وهو يشير بسبابته الى القذافي: «كلامك مردود عليه. المملكة دولة مسلمة وليست عميلة للاستعمار مثلك ومثل غيرك.. أنت من جاء بك الى الحكم؟ لا تتكلم ولا تتورط في أشياء ليس لك فيها حظ ولا نصيب. الكذب أمامك، والقبر قدامك».

لا أستعيد الكلمات الصادرة عن نفس عربية أبية ترفض الإهانة في لحظة غضب فوري عارم، لأنكأ الجراح، انما لأعود الى تاريخ غير معروف لدى الاجيال العربية الجديدة التي يحلو للأخ معمر عادة ان يخاطبها، لأقول ان تساؤل ولي العهد السعودي في بساطة تعبيره وصراحته، ينطوي على أدلة معروفة لديه بحكم اطلاعه، حول كيفية وصول الرئيس الليبي الى الحكم.

لست مؤرخا أمامه حقائق لم تتوفر بعد له، كما تتوفر لرجل دولة كبير ومسؤول كالامير عبد الله، انما لدي أدلة وشواهد. وعندما أعود الى التاريخ العربي المعاصر، فهدفي دائما تعريف الاجيال بتاريخ مطموس سطرته أنظمة وعهود حسب رؤاها ورغبتها ومصالحها. ومن هذا التاريخ المنسي أو المطموس تلك الظروف والملابسات التي احاطت بـ«ثورة الفاتح» من سبتمبر عام 1969.

في تمهيد سريع، أقول إن السنوسية نشأت في القرن الثامن عشر كحركة سلفية صوفية تنطوي على هاجس اصلاحي ديني وقومي. ثم ما لبثت ان فقدت زخمها بعد طول مواجهة مع الاستعمار الأوروبي، بحيث لم تكن مؤهلة تماما لتحمل اعبائها كأسرة مالكة وحاكمة لدولة ليبية مستقلة. ووقع الملك ادريس في طيبته واعتداله أسير صراعات الطبقة السياسية التقليدية. وكان على الرغم من تمريره المساعدات المصرية الى الثورة الجزائرية، وتمويله المقاومة الفلسطينية (باعتراف عرفات)، غير قادر على التجاوب مع طموح جيل الخمسينات والستينات الى تعاون عربي أكبر.

وهكذا، كان النظام السنوسي المعتدل والمتسلط في آن، هدفا لتنظيمات عسكرية انقلابية، باستطاعتي تلخيصها في تنظيمين اثنين: تنظيم لكبار الضباط بزعامة أسرة الشلحي القوية، وتنظيم صغار الضباط الذين استهوتهم القومية الناصرية.

سبق العسكر الصغار ضباطهم الكبار. كان نجاح الانقلاب بهذه السرعة والسهولة مذهلا، ودافعا لطرح تساؤلات كثيرة، في بلد مساحته أكثر من مليون كيلومتر مربع، عن دور اميركا وبريطانيا. فقد كانت الدولتان تملكان قواعد جوية وقوات في ليبيا، وترتبطان بمعاهدات عسكرية وأمنية مع النظام السنوسي. وزاد في الشبهة ان الانقلابيين شكلوا حكومة مدنية، ونصبوا آدم الحواز وموسى أحمد وزيرين للدفاع والداخلية، وهما من الضباط متوسطي الرتب المعروفين.

بل أثارت الشبهة حفيظة عبد الناصر. فأرسل مباشرة محمد حسنين هيكل الى طرابلس يعانق القذافي، ثم ليعود ويقول لرئيسه: «انها كارثة... دول يطالبون بوحدة معاك». ولم تقم الوحدة مع ضباط صغيري الرتب وحديثي العهد في العسكرية. فلم يكن الملازم الأول القذافي قد أتم سنته الخامسة في الجيش.

أما السنوسي الذي استغل الانقلابيون غيابه للعلاج في تركيا، فقد أرسل رئيس ديوانه عمر الشلحي الى لندن وواشنطن ليسأل عن التحالف والصداقة، فكان رد نيكسون وهارولد ولسون بالصمت، فيما أعلن الحسن الرضا ابن شقيق ادريس وولي عهده ولاءه للانقلابيين!

أضع هذه الشواهد والأدلة السريعة بين يدي القارئ، لأترك له الحكم على هوية الانقلاب الليبي، مشيرا ايضا الى أن مذكرات زعماء وساسة ليبيين قدمت أدلة وشواهد مماثلة على «تورط» أميركي ـ بريطاني في دعم الانقلاب، أو على الاقل، في الوقوف على حياد ازاءه.

لست في حاجة إلى مواكبة المنطلقات النظرية المتتابعة «للمعلم» القذافي، أو تطبيقاتها المتناقضة، فهي معروفة للرأي العام العربي، وأعبر محطاتها الزمنية مع القطار الليبي التائه الشبيه بـ«وابور» عبد الوهاب في حيرته: «ما تقول يا وابور رايح على فين؟»، لأصل الى محطة التناقضات الراهنة.

لا أدري كيف يفسر الزعيم الليبي تعهداته للغرب بتصفية مؤسسته الإرهابية، في الوقت الذي يستخدمها لتهديد الأمن العربي، ولضرب استقرار وسلامة بلد في أهمية السعودية؟! لقد التزم السعوديون أدب الصمت الديبلوماسي المعهود. فلم يعلنوا عن تحقيقاتهم مع العقيد المخابراتي الليبي محمد اسماعيل، الا بعد اعلان الاميركيين عن تحقيقاتهم مع عبد الرحمن العامودي، وكلها تلتقي في اطار مشروع اغتيال ولي العهد السعودي.

لقد بادرت السعودية الى بذل وساطة حميدة في عام 1999 مع أميركا وبريطانيا لإخراج القذافي من ورطته، ولرفع الحصار عن ليبيا، وعقدت اتفاقا استثماريا معها في اطار «ربط المصالح» كما قال الأمير سعود الفيصل. ونجحت الوساطة ودخل القذافي في «مرحلة اختبار» لنواياه وسلوكه.

كانت ادارة بوش من الحذر الشديد، بحيث اكتفت بمجال التعاون الاقتصادي والنفطي مع النظام الليبي، وأجلت عودة العلاقات السياسية والديبلوماسية وشطب ليبيا من قائمة الارهاب. لكن العقوبات الدولية لم تلغ، وانما بقيت معلقة. ليس التضامن الاميركي مع السعودية في هذه المسألة القذافية حبا بها، لكن خوفا من ان تكون ليبيا قد تجاوزت الخط الأحمر في التناقض بين التحالف مع أميركا في مكافحة الإرهاب، والتحالف مع الإرهاب الأصولي ضد السعودية.

إذا تحولت التحقيقات الى اتهام رسمي مدعوم بالأدلة والشواهد والمستمسكات والاعترافات، يكون «وابور» القذافي قد دخل مرة أخرى في النفق المظلم الذي لم يخرج منه «وابور» صدام.