حيارى في أزمنة الرماد

TT

ذات حقبة مشابهة مع بداية قرن ونهاية آخر وسقوط أحلام وأوهام بعد أنهار من الدماء أعقبت خيانة الثورة الفرنسية لمبادئها ووعودها، سيطرت على العالم - وليس فرنسا وحدها - موجة من التشاؤم والقنوط، فصار أهل ذلك الزمان كأنهم نحن يفيقون على كارثة وينامون على مصيبة، ومثل بعضنا هذه الأيام توقفوا عن سماع أخبار ليس فيها غير احصائيات القتلى والجرحى وكوارث الزلازل والفيضانات وأمواج الحقد والكراهية.

في ذلك المفترق الحاسم من اليأس البشري العارم الذي يتكرر بمتواليات هندسية وحسابية معلومة كتب الشاعر والناقد وليام ووردزورث لصديقه صاموئيل كوليردج طالبا منه ان يكتب في مواجهة ذلك العصر الرمادي الحائر قصيدة أمل وتفاؤل تعيد للناس الثقة بالحياة وبأن المستقبل سيكون أفضل من الماضي.

وقد قال ووردزورث وقتها لشاعر الخيال المحلق وصاحب قصيدة قوبلاي خان: أريدك ان تكتب قصيدة من الشعر المرسل توجهها للذين تخلوا عن أي أمل للانسانية بعد اخفاق الثورة الفرنسية وغرقوا في أنانياتهم وملذاتهم التي يسترونها بأقنعة الترابط الأسري واحتقار الطوباويات والفلسفات المثالية.

ولا تسل لماذا لم يكتب ووردزورث تلك القصيدة المتفائلة؟ فكل من يعرف أعماله يدرك ان روحه السوداوية لا تساعده على انجاز عمل فني ملون فرح وراقص يبعث البهجة في النفوس وينعش الأمل في الأرواح، فالفرح ليس مهنته والتفاؤل ليس من طبيعته بينما كوليردج من طينة أخرى يتعايش في أفران فخارها يأس رمادي باهت وقوس قزح ملون ومن تفاعلهما تولد الأفكار والأخيلة والصور والمعاني التي لا تعبر عنه وحده بل عن روح ذلك العصر المثقل بالحيرة والسواد.

ولم يكتب كوليردج القصيدة حسب المواصفات والطلب، فذاك ليس شعرا، لكنه حاول بعدها أن يكون أقل سوداوية من دون أن يقع في مطب الفرح والتفاؤل المجانيين، وكان هو ووردزورث يعرفان ان الشعر الحقيقي لا يكتب بمقاسات الخياطين، ومع ذلك تحولت تلك الرسالة الى علامة فارقة موضحة لمرحلة وحقبة وعصر تراكمت فيه على البشرية الهموم وصار الانسان فيها ينام خائفا مذعورا وهو لا يدري على أية مصيبة يستيقظ.

وفي هكذا عصور لا يوجد من يبيعك الأمل لا في القصائد ولا في الصيدليات، فالتفاؤل بذرة نائمة في الروح لا يسقيها غيرك، واذا كان للآخرين وتحديدا الشعراء والادباء والفنانين بعض الفضل في انضاجها لاحقا فهو فضل الضوء على الزهور، بمعنى ان تكثر حولك حالات الفرح الملون البهيج وألحانه الشجية الراقصة حتى تتطاول بذرتك وتعطي ثمرها وذلك لا يكون الا حين تجد من يعضدها ويؤنس وحدتها في حقل القنوط الذي يحيط بالجميع في هكذا أزمان.

ان اليأس يحيل الناس الى موتى في ثياب أحياء ولا مخرج لهم من تلك الحال الا أن يحاولوا النظر الى ايجابيات من حولهم بدلا من التركيز على سلبياتهم، فالعالم عنده ما يكفيه من السلبيات والصراعات والشرور وهو يحتاج عوضا عن النفوس التي تقتل وتدمر وتزرع الخراب الى أخرى رقيقة عطوفة حنونة صفوحة متسامحة تراهن على الخير والعدل والمحبة والجمال.

وحين يكثر هؤلاء لا بد ان يتغير مزاج العصر كله وأن تزداد ثقة الناس بالمستقبل، فهو أفضل من الماضي والحاضر كما علمتنا تجارب من سبقوا، فجميع من راهنوا على بهاء الآتي واحتفظوا ببذرة الأمل والتفاؤل حية نابضة، حققوا أحلامهم وأمانيهم ولو بعد حين.