نصيحة «ناجية» الغالية

TT

«أنصح بألا تجعلوا كل البيض في سلة واحدة!»

هكذا نصحت البائعة المسنة أم إبراهيم «ناجية» زميلنا عمر المضواحي، في تحقيقه الذي نشره بـ«الشرق الأوسط» (13 يونيو 2004).

أم إبراهيم بائعة البيض والأقط والدجاج، يصفها المضواحي بأنها «تستيقظ كل صباح لتطوف على قرى قريبة في ضواحي المدينة لتجمع ما جادت به بطون الدجاج البلدي، لتطعم بثمنها أفواه عائلتها الصغيرة. لا تذكر متى مات زوجها أبو إبراهيم، لكنها تحفظ وصيته في رعاية ابنها وأحفادها الصغار ورعاية دكان ضيق لا تتجاوز مساحته ستة أمتار مسقوف بألواح معدنية، وبقايا بسط قديمة تحميها من حرارة الصيف وبرد الشتاء». وهي لا تعرف عن ماذا يتحدث الرجال وتتحدث النساء في الفندق الذي لا يبعد عن بسطتها الصغيرة سوى اقل من 5 كيلومترات.

تحدث معها الصحفي حديث الولد مع الوالدة الطيبة والتقط صورة معبرة لها تظهرها بوجهها السمح الذي يبدو نصفه الأعلى وتحته ِخرقة تستر النصف الأدنى من محياها.

بالتأكيد هي ليست بحاجة للخطب والمناظرات التي شهدتها قاعات الحوار الوطني السعودي الثالث بين أطراف اتخذت من موضوع المرأة ميدانا للخلاف والاختلاف، وان كان من الواضح أن فريقا اكبر هو من يحظى بالصوت الأعلى، والقدرة إظهار الأمر بصورة المقاتلة باسم الله والحق المطلق، ونقل النقاش فيما يخص موضوع المرأة من مستوى الخطأ والصواب إلى مستوى الحق والباطل، أو الحق والضلال. أي نقلها من المستوى العلمي إلى المستوى الآيديولوجي.

هناك فريق ألِفَ «تلغيم» مسألة المرأة، فأصبح الاقتراب منها محفوفا بالمخاطر، ومغامرة غير مأمونة العواقب، خصوصا في وسط جمهور أسلم نفسه للصخّابين المحتكرين للحديث عن هذه القضية بدعوى أنهم هم وحدهم من يحمي الفضيلة ويذب عن العفاف وينافح عن الطهر والنقاء. بطبيعة الحال ليس شيء من ذلك صحيحا، ولا يوجد مجتمع في العالم، وعلى مدار التاريخ، حقق هذه الصورة المثالية المتوهمة، أبدا لم يحصل ذلك إلا في مروج الخيال الغنّاء، التي تتحول إلى أودية جحيم حمراء إذا ما أرادت أن تهيمن على الواقع المصطخب بالتناقضات والتعقيدات. فحينما نحاول أن نختزل كل تعقيدات الحياة ببضعة شعارات جوفاء، تحصل الكارثة ويتعطل الزمن.

لا أريد الإفاضة في مسألة المرأة، لأن الكلام لن يقدم ولن يؤخر، والسبب أن هناك حالة من الهيجان والاحتقان البالغ لا يسمحان بنفاذ العقل أو مرور المنطق، هي قضية ُمأول كل كلام فيها بالسوء سلفا!

هل تتخيلون أن بعض خطباء الجمعة وعلى اكبر المنابر واشهرها لم يطق صبرا فبدأ برسم المعالم وتحديد المسموح والممنوع والتحذير من عظائم الأمور وأن المرأة توشك أن تنحدر إلى هوة ما لها من قرار إذا ما استمعت إلى نصائح البعض وغادرت مواقعها الأولى! وللسائل أن يقول: هل ستغادر حقا عقيدة غيبية أم وضعا نتج عن ظروف زمنية واقتصادية معينة إلى وضع آخر مغاير بسبب اختلاف هذه الظروف والمعطيات؟!

لماذا يتوتر البعض عند الحديث عن المرأة ويفترضون أنهم وحدهم الذين يحمون المرأة التي ستصبح، لولاهم، فريسة سهلة ولقمة سائغة في الأفواه الذكورية المتحلبة؟

إنها نظرة تضمر احتقارا بالغا للمرأة وتلخيصا لها في صورة الجسد المُشتهى، وإلغاء كل بعد آخر في شخصية المرأة: العقل، العمل، الإبداع، المسؤولية... باختصار كل أبعاد الشخصية الإنسانية.

والأكثر إدهاشا أن تحرص نسوة في المدينة على تجذير وتكريس هذه الوضعية الظالمة لها، بكل استعذاب وغبطة ! بذريعة أنها تكرم نفسها بذلك.

يجب أن تقتنع المرأة بنفسها وتثق بها، حتى يكف الرجال الآخرون عن حديثهم عنها، أكانوا ممن يدعون حمايتها أو حفظها وفق مقولة «الجوهرة المكنونة» التي لا تعدو أن تكون تلطيفا لمعنى الاستعباد والتقييد، أو من طرف المتحمسين لتحريرها وعصرنتها أيضا.

يجب أن ندرك أن الجدل في موضوع المرأة ملتبس بالاجتماعي، ومن يغالط في ذلك إنما يجادل في حقيقة ساطعة سطوع الشمس. وإلا فلماذا كانت قيادة المرأة للسيارة، المسالة التي «ألهت بني تغلب عن كل مكرمة..»! لماذا لم تصبح أمرا مرفوضا لدى إسلاميي الكويت على سبيل المثال؟ بل إن بعضهم قد طالب قبل عدة سنوات بإقرار«حق» المرأة المنقبة في قيادة السيارة إثر جدل دار حول توفر شروط السلامة المرورية في قيادة المنقبة للمرأة من عدمها، فلماذا صار الأمر حقا وهدى لدى إسلاميي الكويت وباطلا من عمل الشيطان لدى آخرين ؟

ومع أن قيادة المرأة للسيارة، مسألة هامشية جدا، إلا أن قيمتها هنا تكمن في دلالتها الرمزية، وللوقوف على مدى النسبية وتحكم الوضعية الاجتماعية التي تسيّر مثل هذه الأمور، إنها مسألة عادة وإلفٍ في نهاية المطاف، حدث ذلك في قضايا أخرى تتعلق بالتطور والتحديث.

إن الحديث عن ممانعة الشريعة الإسلامية لهذه القضية أو تلك فيما يتصل بوضع المرأة، محكوم بخلفية هذا الواعظ أو الداعية الذي يصدر الراي و«الفتوى» ونعلم أن كتابا مثل كتاب الفقيه المصري الكبير عبد الحليم أبو شقة «تحرير المرأة في عصر الرسالة» وهو سفر ضخم من مجلدين، ينطوي على نصوص غزيرة من الكتاب الكريم والصحيحين، البخاري ومسلم، وعلى هامش هذه النصوص مئات التعليقات والشروحات من الفقهاء الأوائل التي تقدم صورة مغايرة تماما للمرأة المسلمة، عكس ما يحرص المتشددون من تسويقه للمجتمع، عبر تكريس ونمذجة صورة مرأة منغلقة ذات وظيفة مختصرة، الأمر الذي يحدث موقفا نفسيا مأزوما لدى الرجل تجاه المرأة، لا يتصورها بغير الحالة التي اعتادها. لكن المرأة التي نراها من خلال كتاب أبي شقة، هي امرأة عاملة واثقة مقتحمة للحياة، بكل اقتدار، مع حفاظها على هويتها المسلمة واحترامها، ما نقوله هنا ليس كلاما إنشائيا، ما نقوله مسنود بعشرات النصوص التي تكشف عن وجه مغاير تماما لما يقدمه لنا كثير من وعاظ الكاسيت.

يتحدث اغلب النقاد العرب عن انحدار الثقافة العربية وهيمنة ثقافة الهامبورجر... لكن لم يركز احد على انتشار هذا النمط من الاستهلاك الثقافي السريع في الجانب الديني! واقصد بذلك تناول وجبات دعوية ووعظية تأتي على شكل أشرطة كاسيت أو كتيبات جيب مزركشة محشوة بالشعارات الرنانة عن تغريب المرأة والعفاف والفضيلة والغزو الفكري والأمة الاسلامية... الخ وأكثر من يتغذى بهذه الوجبات السريعة المشبعة بالدهون العقلية الضارة هم، كالعادة، المراهقون والمراهقات، الذين قد تمتد بهم المراهقة إلى سن متقدمة.

قضية المرأة تحولت إلى قضية سياسية ونقطة شد وجذب بين تيارين عريضين في المشهد الإسلامي والعربي. لا في السعودية فقط، كما في الصراعات المكررة على شكل وصورة المرأة ودورها بين إسلاميي بعض الدول الخليجية وخصومهم.

يجب أن ننتبه للتعصب في كل مظاهره وتجلياته، لأن عقل التعصب ولاّد، ونسقه واحد، وماءه متشابه.

مرة أخرى: القضية ليست شخصية، حاربوا عقل التعصب لا أشخاص المتعصبين، الأشخاص زائلون، وربما ينفتحون يوما، ولكنه العقل، متى وكيف يتغير؟ تلك هي المسألة.

ربما نفعل شيئا جيدا لو أننا استمعنا إلى وجهات نظر فقهية أخرى، مثل وجهة نظر الشيخ أبو شقة، عن المرأة، بدل أن نضع بيضنا كله في سلة واحدة، كما قالت العجوز الحكيمة «ناجية!

[email protected]