أفريقيا: دوامة الشفقة والازدراء..!

TT

يقول هنري كيسينجر، في كتابه بعنوان «هل تحتاج افريقيا الى سياسة خارجية؟»، ان القارة الافريقية ستصبح حتما «كارثة قبيحة لعصرنا». اذ طبقا لوجهة نظره، فإن «الالتزام الاخلاقي للشعب الاميركي والمجتمع الدولي» هو وحده الكفيل بإنقاذ افريقيا من هذا المصير. الكثير من هؤلاء الذين أشار كيسينجر الى «التزامهم الاخلاقي» سيقبلون المعنى الضمني لما قال، بصرف النظر عن اهتمامهم بمناشدته. المعنى الضمني لما كتبه كيسينجر يتلخص في ان الافارقة يفتقرون الى المقدرة على انقاذ انفسهم مما هم فيه وانه ينبغي عليهم الاعتماد على عطف غيرهم. اذ ان هذا الافتراض تغلغل، بوعي أو بدون وعي، في الخطاب الذي يتناول الحديث عن اوضاع وشؤون القارة الافريقية.

لذا، يمكن ان نتوقع ان يتم تصوير افريقيا كقارة متسولة في وقت شارك فيه ستة قادة افارقة في قمة الدول الصناعية الثماني في سي آيلاند، وهي القمة الخامسة على التوالي التي توجه الدعوة لنا بحضورها. لا أود القول ان هذا قصد أو خطأ مضيفينا، بل العكس. فالحضور الروتيني للقارة الافريقية في لقاءات القمة لهذه المجموعة هدف منه قادة دولها الاعضاء الى التعبير عن ترحيب ورغبة حقيقيين في إشراك القارة في الاجندة الدولية.

رغم ذلك، ستظل صورتنا في المخيال العام في الشمال الغني بمثابة الفقير المتطفل في الحفل. ولكن بوسعنا الحديث عن الجهة المسؤولة عن رواج هذه الصورة عن القارة الافريقية، ولكن ما يمكن ان نتفق حوله هو ان الافارقة سيظلون موضوعا للشفقة والرحمة والازدراء الى ان يأتي الوقت الذي نصبح فيها قادرين على السيطرة على مصائرنا.

سيأتي الزمن الذي لن يعود فيه التحول الديمقراطي الذي تحقق في جنوب افريقيا قبل حوالي عشر سنوات معجزة، بل مؤشر عادي على الطريقة التي تثبت ان سكان القارة قادرون على حل خلافاتهم العميقة. كما سيأتي زمن يكف فيه كتاب اعمدة الصحف الاميركية البارزة عن وصف منجزات القارة الافريقية خلال العقد الماضي كونها جاءت عن طريق الصدفة ليشيروا بدلا عن ذلك الى شخصية سكان قارتنا وطبيعة وجوهر سياسات الحكومات التي سيتحدثون عنها.

سيأتي الوقت الذي يموت فيه نموذج المانح والمتلقي وستكون جنوب افريقيا دولة واحدة فقط من عشرات دول القارة في منطقة جنوب الصحراء القادرة على ان يكون لها رأسمال معقول في الاسواق الدولية للديون.

يمكن القول ان الامر متروك للأفارقة لإيجاد الاوضاع اللازمة لحدوث هذه التطورات، اذ ليس هناك من يمكن ان يفعل ذلك نيابة عنا. سيكون الوضع الاقتصادي للعامل بكامله افضل حالا عندما يصبح السوق في حاجة الى ديون منخفضة التكلفة صادرة، على سبيل المثال، من جمهورية الكونغو الديمقراطية، كما حدث في حالة سندات جنوب افريقيا بقيمة مليار دولار لمدة عشر سنوات.

عندما تصبح القارة الافريقية قادرة على تأمين الرفاهية والرخاء لشعوبها النشطة اقتصاديا من خلال سياسات قائمة على اساس ترقية وتعزيز كرامة الانسان والتوازن الاقتصادي، فإنها ستكون قارة لا تمثل فيها جنوب افريقيا سوى نموذجا، لا يقتصر فقط على النظر اليها كمعجزة او تحفة تاريخية للزينة. جنوب افريقيا اليوم، بما تمثله من نجاح لا ينكره احد، لم تأت نتاج سحر او صدفة وإنما نتيجة نضال شاق وجهود جماعية جادة ومواطنة منصفة ومنتجة.

نطلب من الغرب ان يتخلى نهج السيطرة التجارية ومنح فرص متكافئة في الاسواق العالمية للمنتجات والخدمات. ففي عالم كهذا سيكون هناك مجال للقارة الافريقية تتمكن شركاتها من خلاله من المنافسة مع نظيراتها الاخريات وتجد بالتالي موطئ قدم لها في هذا المضمار. كما ان ذلك سيمكن القارة الافريقية من الحفاظ على مواهب ومهارات وقدرات أفراد شعوبها. ستكون افريقيا من دون شك قارة لدول تعيش في سلام داخل حدودها ومع الدول الاخرى وتعمل على السيطرة على شبح الفقر والامراض بصورة اكثر فاعلية، فضلا عن حماية واحترام حقوق الانسان. ستكون افريقيا قارة تنبذ تفريخ او ايواء الارهاب الذي تمارسه دول ومجموعات مخالفة للقانون، وهو خطر يتهددنا جميعا.

ليس هناك بالطبع معالجات سريعة او حلول سحرية توصلنا الى هذا الهدف، وإنما يجب ان يكون من خلال عملية بناء مستمرة ومتواصلة واضعين في الاعتبار ان العجلة في معالجة أي شيء يمكن ان تسفر عن إلحاق أضرار تستمر عدة عقود مما يتسبب في إجهاض أحلام الاجيال المقبلة.

لذا، يجب علينا ان نكون قادرين على تحديد اولوياتنا على اساس واقعنا وتجربتنا واحتياجاتنا، بدلا عن واقع وتجارب واحتياجات المانحين الأجانب والمنظمات التي ينقلون عبرها تمويلهم ومساعداتهم. لقد جرى وضع الاساس مسبقا. ففي ظل وجود الاتحاد الافريقي اوجد الجيل الجديد من القادة الافارقة الوسيلة اللازمة التي تصل دول القارة ببعضها بعضا. وفي هذا السياق سيصبح القانون التأسيسي مطبقا في محكمة العدل الافريقية ملزما الدول بتطبيق المبادئ الديمقراطية واحترام حقوق الانسان والحكم الراشد وسيادة حكم القانون. كما اننا اوجدنا ضمن برنامج «الشراكة الافريقية للتنمية»، الذي وجد قبولا من المجتمع الدولي، خططا مفصلة لتحقيق اهدافنا الاقتصادية. وفي مجال تحسين وترقية المجالات المتعلقة بالحكم والادارة في مجالي السياسة والاقتصاد أنشأنا آلية عملية لتحقيق هذا الهدف. اذ نعتقد ان هذه الادوات ستمكننا من تحقيق افضل استخدام لمساعدات الدول المانحة كوسيلة فقط وليس كطريقة للحياة.

* رئيس جنوب أفريقيا

ـ خدمة واشنطن بوست خاص بـ «الشرق الاوسط»