مصارع الحسناوات.. وقد أعذر من أنذر ..!

TT

من مهازل الصدف أن تنطلق الانتخابات البلدية اللبنانية بالتزامن مع بدء انتخابات ملكة الجمال، التي تحولت ـ بفعل النضوج والتقدّم ـ من سهرة تلفزيونية قصيرة إلى بث على مدار الليل والنهار، وقصف سمعي بصري، مدى شهر ونصف من دون انقطاع. وقد اقترع المواطنون الصالحون في كل المناطق اللبنانية لممثليهم في المجالس البلدية على مدى أسابيع متوالية ماضية، وفتحت الصناديق وأحصيت الأصوات وأعلنت النتائج، وانتهت حفلات التهاني والتبريكات، في ما الفاتنات المتغاويات ما يزلن موضع حيرة في الاختيار. وها هنّ يواصلن كرنفال التنكر والتجمّل والدلال على الشاشات، بانتظار اكتساب أصوات المشاهدين من كل القارات.

ومن هنا وحتى نهاية الأسبوع الحالي سيبقى اسم «ميس ليبانون» لهذا العام سرا من الأسرار لن نعرفه إلا وقد قضي على أنفاس قاطني كل دار. وحاشا أن نعترض على استفتاء الكوكب في أمر مصيري كهذا يعكس صورة لبنان ومقامه الحضاري بين الأمم، لكننا نتساءل، وقد نكون من الضالين عن سواء السبيل، إن كان اختيار سعيدة الحظ يستحق هدر كل هذا الزمان في القيل والقال، والتحليل والتخمين، والرقص والفقش، عدا الملاحق الإعلامية والمجلات الفنية التي تخصصت في أخبار الملكات وسيرهن وصورهن وهمساتهن وخفقات قلوبهن.

لا بد ان المحطة التلفزيونية المعنية أدرى بمصالحها الإعلانية، والرجال معذورون، ربما، لأنهم ورثوا أباً عن جد حبهم لهشاشة سندريلا وغيبوبة الأميرة النائمة. لكن اللوم يقع، بالدرجة الأولى، على النساء اللواتي يحتفلن كالبلهاوات بلعبة إحكام الحصار عليهن في حظيرة لم يخرجن منها بعد. وإن كانت نساء أوروبا قد فككن الأغلال في الستينات وثرن على أسطورة المرأة اللعبة والألعوبة لفترة من الدهر قبل أن تعود بهن موجات التسليع والتشييء لسنوات إلى الوراء مع مطلع التسعينات(وقد صعقتهن سندي كروفرد وزميلتها كلوديا شيفر)، فإن العربيات نصب لهن الفخ الجديد قبل أن يخرجن من ذاك القديم ويلتقطن الأنفاس. وهكذا شاءت انتقائية الاستيراد الحضاري ان يحرقن المراحل، ولا يصلهن من أخبار الشقيقات الأوروبيات ـ بفضل فطنة الرجال ـ إلا ما يخدم الرضوخ والعبودية. وتبدو الفتيات الطالعات، اللواتي يعتقدن أنهن متحررات، سعيدات هانئات بدور هو أشد سوءاً وأدهى من دور الجدات المستورات القانعات، اللواتي أفلحن ،على الأقل، في حياكة الصوف ولفّ ورق العنب، في ما تعجز الحفيدات عن تركيب جملة عربية مفيدة، نكاية بالتخلف وقفزاً فوق اللغات، على اعتبار أنهن يجدن لغة الإغراء، وهذه مثالية في زمن التواصل والاتصال.

ولا بد لكل عاقل، ما زال يملك شيئاً من الإنسانية أن يشفق على الطموحات المتباريات، اللواتي حشرن برضاهن أمام الكاميرات، واستقتلن كي يتزين ويتبخترن صبحاً وعشية ويمثلن دور باربي اللبنانية، ويحتملن تعليقات باتت على ألسن الصغار والكبار مليئة بالسخرية والابتذال والاستخفاف.

أشعر كأنثى بالسخط والامتهان حين اسمع حوارات حولهن تليق بسيارة أو قطعة أثاث ولا يجوز أن تستخدم في حق إنسان. فقد فكك المشاهدون أجسادهن قطعة بعد قطعة، ولم يتركوا صفة نابية إلا واستخدموها، ولا كلمة جارحة يعرفوها إلا ونطقوها. فموضوع التنافس هنا ليس الصوت ولا المهارة الأدائية كما كانت الحال في برنامج «ستار أكاديمي» الذي تم استنساخه ـ نقصد مسخه ـ إنها الجسد ولا شيء غيره، وحين تتبارى الأجساد تسقط العقول وتنحط الميول، وتتبدد كل قيمة باستثناء القيم المادية. وأن يتقبّل كثيرون الفكرة، برحابة صدر، فلأن البرنامج يشبه زمنه، والفتيات المعروضات في الواجهة التلفزيونية، هن النموذج الحلم لكثيرات، كانت المدرسة العربية «المحافظة» قد قررت الا تعلمهن شيئاً عن الحركة النسوية الغربية التي انتزعت حقوقها الإنسانية في العدالة والمساواة عنوة، فجاءت النتيجة أن تلقفهن التلفزيون جاهلات، ليلقنهن الدرس من آخره، وفي لحظات عسيرة من مساره، فإذا بالتشوه مضاعف، والخطورة مرعبة.

النسويات الأوروبيات والأميركيات أمثال المخضرمة بونوات غرو والناشطة سوزان فالودي يعتقدن جازمات ان الذكورية عادت لتنتصر بقوة في الجولة الحالية، لا بل يذهبن إلى أبعد من ذلك حين يعتقدن ان مؤامرة رجالية يتعاضد في حياكتها رجال دور الأزياء ومهن التجميل على أنواعها ليستعيدوا مجد الفحولة الغابر، مستغلين بذلك فرصة غياب كبيرات مؤثرات في عالم الجمال النسائي من وزن كوكو شانيل وجان لانفان وجريس سكياباريللي. واياً يكن الأمر فإن الغربيات يعشن تاريخهن المعاصر صعوداً وهبوطا، ويواكبنه درساً وتنظيرا وتحليلا، ويعرفن جيداًـ بعضهن على الأقل ـ لماذا ينفخن شفاههن أو يخضعن لإنقاص أوزانهن في ما تساق العربيات إلى غرف العمليات كما النعاج إلى المذابح دون أن تدركن ما لهن وما عليهن. وغداً، بعد مباراة الجمال وتجربة الحرملك التلفزيونية، ستطول الطوابير أمام المستشفيات للحصول على صدر لاميتا أو أنف لوليتا، والمجزرة مستمرة وابتسامات الرضا الماكر لا تفارق ثغور صبايانا المنتصرات على العناتر والمراجل بالسحر القاتل.

وحين تدور الدائرة ويغطس الكل في المعمعة، قد يفهم رجالنا ان «على نفسها جنت براقش». فلن يطول بنا الانتظار قبل ان نرى نبيل ومروان وحسان يتنافسون على لقب جمال الرجال وفق المنهج الموبوء ذاته، ولن نصوت حينها إلا لمن ينحت مقاييسه على هوانا ويسرّح شعره كما يليق بصبانا وسنبقى نهدد ونزمجر حتى يستعرض كل منهم جسده الممشوق بأصغر«مايوه» في السوق، عشرات المرات أمام مرآنا، لنتأكد انه اتبع الحمية المطلوبة واستوفى شروطنا المحمودة.

وساعتها فقط نحن على استعداد لأن نفهم تمجيد الابتذال في ما يخص تحقير النساء. ففي عهد «الإصلاح» و«الديمقراطية» لن نقبل بأقل من المساواة في الدونية، وهذا وعد نقطعه على أنفسنا أمام القراء. وإن أردتم ان تعرفوا السبب ليبطل كل عجب ما عليكم سوى العودة إلى مصدر الإلهام، أمنا أميركا، التي منها تستورد البشرية أمزجتها الجمالية المستقبلية. فدراسة أجراها هناك الدكتور كيث لا فريير، من الأكاديمية الأميركية لجراحة التجميل وترميم الوجه، نشرتها وكالة رويترز، مطلع العام الحالي، توضح بالأرقام أن النساء لم يعدن أقل تطلباً من الرجال تجاه الشريك، ولو اتيح لهن لأمعن فيهم إصلاحاً وترقيعاً وترميماً، ولم يوفرن زرع شعر أو شد غضون وجه. وتوضح الدراسة ان الحب لم يعد أعمى بل بصيراً وفي الأحيان خبيثا. والرجال يشعرون حيال هذه الرغبات الأنثوية المتصاعدة وكأنما هم موضع شتيمة، ولا يرتعون بمشاعر الارتياح أو السكينة. وبانتظار أن يفهم فحولنا الدرس ويتوقفون عن الدسّ والهمز واللمز، والتسمّر أمام التلفزيونات لتصيد محاسن الفاتنات، ما لنا سوى ان ننصحهم بالتضامن معنا والاعتراض على الاتجار بمشاعرنا. وغداً لناظره قريب .. وقد أعذر من أنذر.

[email protected]