مجلس التعاون «الواسع»... ولم لا ..؟

TT

لم يحدث أن أطل حاكم عراقي على بني قومه وعلى جيرانه أهل الخليج وعلى العالم، على نحو ما فعله الشيخ غازي عجيل الياور منذ أن تم اختياره عضواً في صيغة «مجلس الحكم»... ثم بعدما انتهى التوافق عراقياً والتجاوب أميركياً إلى أن يكون هو رئيس الجمهورية الثانية في العراق ذات الطبعة المحافظة، بعد الجمهورية الأولى التي تعددت الأنواع الثورية فيها، منذ النوع القاسمي في 14 يوليو (تموز) 1958 حتى النوع الصدَّامي الذي استمر إلى حين إسقاط (عبد السلام) والنوع العارفي الوريث (عبد الرحمن) والنوع البكري ـ الصدَّامي الذي ما لبث أن اجتاحه النوع الصدَّامي.

كانت إطلالة الشيخ غازي إيذاناً باستعادة العشيرة شأنها، في العراق الذي هو كتلة عشائرية فريدة، بمعنى أن العشيرة الواحدة فيها الثوري وفيها المحافظ في الوقت نفسه، وفيها الصدَّامي الهوى والمصالح وفيها الذي تقطعت خيوط علاقته بصدَّام، وفيها السني وفيها الشيعي في الوقت نفسه، وتلك خلطة فريدة لم يسبر غورها «العم سام» وغاب الحكيم البريطاني عن شرح خصوصيتها له فاضطربت أحوال الاحتلال كما لم تضطرب أحوال قوة عظمى من قبل.

كانت إطلالة الشيخ غازي متمثلة بعباءته وكوفيته وعقاله وشاربه الكث مع ابتسامة غير ماكرة. ومثل هذا اللباس العراقي مندثر بالنسبة الى أهل الحكم منذ الجمهورية الاولى، لأنهم في معظمهم من الضباط الذين يفضلون الظهور على الناس بالزي العسكري، ولأنهم في الوقت نفسه عدا الطبعة التكريتية من الحكم، ليسوا من افخاذ عشائرية صميمة لكي يرتدوا العباءة والعقال والكوفية. وباستثناء حالات نادرة لم تسجل «كاميرات» المصورين الرسميين والعاديين لقطات للحاكم العراقي وهو يرتدي العباءة والكوفية والعقال. ومن هذه الحالات حرص الرئيس صدام حسين على أن يستقبل الملك فهد بن عبد العزيز عندما زار بغداد يوم الإثنين 27 مارس (آذار) 1989 وهو، أي صدام، يرتدي الثياب العربية وليس البدلة الإفرنجية، وهو الذي كان دائم الحرص على أن تكون من أفضل تصميمات «لانفان». وليس أيضاً ارتداء الزي العسكري الذي استمر لبضع سنوات من الحرب مع إيران ثم من الحرب البوشية الأولى عليه وطوال سنوات الحصار في عهد الرئيس كلنتون، ثم في عهد الرئيس بوش الإبن، يحرص على الظهور فيه عدا استثناءات قليلة.

تطول الملاحظات حول أنواع اللباس التي كانت جزءاً من شخصية صدام حسين وكيف أنه ارتدى الكوفية المرقطة وكذلك الكوفية البيضاء والقلبق والفيصلية والقبعة الأوروبية والبدلة الإفرنجية وأفضل ربطات العنق أو البدلات العسكرية مع مرافقة السيجار ليده اليمنى في معظم الحالات. وكان في تأنقه يريد الإيحاء بأنه مُواكب لمقتضيات العصر. وهو في ذلك كان مثل الرئيس أنور السادات مع فارق أن الأخير كان شديد الحرص على أن تكون الأوسمة والميداليات مرصوصة على يسار بدلته العسكرية، في حين أن صدام حسين كان لا يظهر على الناس بالأوسمة والنياشين لأنه دائماً في ثياب ميدان معارك حروبه التي لا تنتهي.

كذلك تطول الملاحظات في شأن الدوافع إلى هذا التنوع في مسألة اللباس والبدلات وكيف أنها وحدها لا تكفي للإيحاء بأن صاحبها يواكب روح العصر.

أما الذي نحن في صدده الآن فهو ثبات الشيخ غازي على لباس إبن العشيرة ، وحرصه على أن يبقى دائم الظهور فيه على الناس والعالم، وكيف أنه عندما توجه إلى فرجينيا ليكون قريباً من قمة الدول الصناعية التي استضافها الرئيس بوش الإبن في «سي آيلاند» ، بدا في أنظار مشاهديه كما لو أنه أحد حكام دول مجلس التعاون الخليجي الذين اعتاد أهل القرار الدولي على الاجتماع بهم وهم يرتدون الثياب العربية. ولو لا ان الرئيس علي عبد الله صالح لم يخرق هذه المرة حرصه هو الآخر على أن يظهر أمام دول الغرب عموماً بالبدلة الإفرنجية، وظهر في القمة البوشية بالزي اليمني متمنطقاً الخنجر الشهير على منتصف وسطه، لكان الشيخ غازي بدا وكما لو أنه يمثل دول الخليج في هذه القمة، خصوصاً أن ملك البحرين الشيخ حمد بن عيسى آل خليفة كان مثل بقية الآخرين، عدا الرئيس الأفغاني الذي صارت عباءته الخضراء من ابتكار «كاردان» علامة فارقة في دنيا الأزياء، يرتدي اللباس الإفرنجي، أي «السترة والبنطلون» ومن دون ربطة عنق وهو ما بدا أنه متفق عليه مع البروتوكول الرئاسي، حيث أن الجميع، رؤساء أميركا وبريطانيا وفرنسا والمانيا وإيطاليا واليابان وروسيا وكندا ومعهم الرئيس عبد العزيز بوتفليقة ورئيس الحكومة التركية رجب طيب اردوغان والملك عبد الله الثاني، كانوا بثياب خارج مقتضيات الرسميات.

وهذه الإطلالة لإبن العشيرة الشمَّرية تمتد جذور شجرتها إلى السعودية وسورية والأردن تجعلنا نتساءل: أليس من مصلحة العراق وجيرانه الخليجيين حسم مسألة انتساب العراق إلى دول مجلس التعاون الخليجي ما دامت هواجس العراق الثوري قد انحسرت وما دامت العلاقة الأميركية ـ العراقية ستكون استراتيجية وبمثل العلاقة التي بين أميركا ودول مجلس التعاون من دون استثناء. وإلى ذلك إن حسم هذه المسألة تؤكد التسمية التي اختارها الخليجيون لمجلسهم وهي «مجلس التعاون لدول الخليج العربية». والعراق هو الخليجي العربي الوحيد الذي بقي خارج السرب لدواعي عدم الانسجام وعدم تقبُل الجسم للعضو الثوري يُزرع فيه. وبعد الآن لا فرصة على ما يجوز الافتراض أمام استعادة الثورية أنفاسها في العراق لأن الزمن الثوري عموماً إلى انحسار... وهذا الذي جرى لـ«الاتحاد السوفياتي» وللعقيدة الماركسية عموماً ولكل الأنظمة الثورية في أوروبا، تأكيد لما نقوله. وحتى الصين تحاول تفصيل لباسها الثوري بمقص رأسمالي. أما كوبا الصامدة على العقيدة الماركسية فإن ثوريتها ستتلاشى مع انصراف فيدل كاسترو اختياراً بدواعي الشيخوخة التي استحكمت به، أو صرفه بفعل انقلاب، او من خلال ازاحته بعملية حربية على نحو الذي جرى لصديقه وحليفه صدام حسين.

وانتساب العراق الجديد إلى «مجلس التعاون الخليجي» فرصة قد لا تتكرر ولا تحتمل التأجيل على نحو ما جرى للرغبة اليمنية... مع الأخذ في الاعتبار أن اليمن حالة حدودية برية، في حين أن العراق على شاطئ الخليج، إضافة إلى التجاور الحدودي مع السعودية والكويت، كما أنه ليس عبئاً مالياً لأنه غني بنفطه وبنهريه وبساتينه وجباله وخيرات نخيله.

وقد يحدث في حال انتساب العراق إلى خليجيته أن تشعر إيران بأنها الوحيدة التي هي خارج الرابطة الخليجية. وفي هذه الحال تفكر جدياً بالانتساب هي الأخرى وبعد أن يطرأ من باب الترغيب لها تعديل لتسمية المجلس يتم بموجبه حذف الهوية العربية ليصبح «مجلس التعاون لدول الخليج الإسلامية». وبذلك تنحسر التطلعات الإيرانية إلى التسيد بعد انحسار التصدير الثوري وبمثل ما كانت عليه تطلعات العراق الصدَّامي، ولا تعود مشكلة الجزر الإماراتية الثلاث على الاستعصاء الذي هو عليه حلها لأن الشقيق يجيز لنفسه المشاكسة أحياناً على نحو مفاجآت دولة قطر في هذا الشأن، إنما لا يجوز أن يحتل أرض شقيقه. وهذا ما كان يحدث من جانب العراق إزاء الشقيق الكويتي لو أنه كان على نحو ما يُفترض حدوثه وما نشير إليه.. أي انتسابه عضواً سابعاً إلى مجلس التعاون.

وتبقى الإشارة إلى أن توسيع المجلس، بحيث يمتد من اليمن إلى إيران شاملاً العراق والدول الست الأعضاء حالياً، من شأنه أن يحقق استقراراً في المنطقة ويقلل من نسبة الحذر الأميركي والغربي عموماً من الجنوح الثوري والأصولي. وهذا أمر طيب في أي حال، خصوصاً أن الجامعة العربية كمؤسسة إلى تحلل، وأن التكتلات من نوع التكتل الخليجي الذي نشير إليه سيبدو داخل «الشرق الأوسط الواسع» الذي تم التوافق الدولي في شأنه في قمة الإقطاع الاقتصادي الدولي التي استضافها الرئيس بوش الإبن قبل عشرة أيام في فرجينيا، رقماً محسوبا حسابه ومقبولاً وبكل الرضى والارتياح تنوعه.

ويا ليت الأمين العام السابق للمجلس الشيخ جميل الحجيلان، والأمين العام الأسبق عبد الله بشارة، وهما اللذان عندما يعالجان بالقلم قضية ما فإنهما يجيدان، يوضح كل منهما ووفق رؤيته ما الذي يحول دون قيام «مجلس التعاون الخليجي الواسع» بينما من السهل قيام «الشرق الأوسط الواسع» ذات يوم... وليس بالبعيد.