هدوء يسبق العاصفة في شمال العراق

TT

خيب القرار الدولي رقم 1546 الذي صدر أخيرا، بالاجماع، حول العراق آمال الاكراد العراقيين وشعروا بان عملية «الخيانة» بحقهم تتكرر من جديد، فالقرار لم يشر الى ما يسمى بـ«ادارة الدولة للمرحلة الانتقالية» الذي كان سيسمح بدولة عراقية عربية ـ كردية اللغة تكون فيها حكومة كردية محلية مخولة حق النقض في ما يتعلق بنشر قوات الحكومة المركزية في الشمال، ويمكنها ان تعترض على بنود تندرج في الدستور العراقي لا تتوافق مع تطلعات الاحزاب الكردية. وبدا انه من المستحيل دمج ما تطلبه القيادة الكردية التي أرادت ان يشير القرار الدولي الى «ادارة الدولة للمرحلة الانتقالية» وما أصر عليه آية الله علي السيستاني، لكي يدعم القرار الدولي، وهو عدم الاشارة اطلاقا الى «ادارة الدولة للمرحلة الانتقالية».

على الاثر هدد القادة الاكراد بالانسحاب من العملية السياسية برمتها ووجه مسعود بارزاني زعيم الحزب الديمقراطي وجلال طالباني زعيم الاتحاد الوطني رسالة الى الرئيس الاميركي جورج بوش قالا فيها، انه اذا لم تلتزم الحكومة العراقية بالدستور الانتقالي الذي يضمن الحكم الذاتي للاكراد ويمنع حكم الأغلبية الذي ينادي به الشيعة، فان الاكراد «لا خيار لديهم إلا مقاطعة الحكومة المركزية وعدم المشاركة في الانتخابات المقبلة ومنع ممثلي الحكومة المركزية من دخول كردستان». عند صدور القرار اعترف وزير الخارجية العراقي، هوشيار زيباري ـ كردي ـ بأن جهوده لتضمين القرار الدولي وثيقة «ادارة الدولة للمرحلة الانتقالية» لم تنجح، لكنه «مطمئن الى ان القرار عكس روح تلك الوثيقة».

ووصف الأخضر الابراهيمي مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة الى العراق الوضع بأن الشيعة يدافعون عن حقوق الأغلبية في وجه فئة لديها حق النقض، في حين ان الاكراد يركزون على ضمان حقوق الأقلية بعد عقود من الاضطهاد والوعود التي لم تتحقق، وتمنى ان يتوصل الطرفان الى حل عملي بينهما. لكن الكثير من الديبلوماسيين في الامم المتحدة عبروا عن شكوكهم بامكانية حل هذه المشكلة بسرعة وبسهولة وتخوفوا من ان تتدهور الأوضاع خصوصا في الشمال العراقي. وقال محمود عثمان العضو في مجلس الحكم العراقي السابق، والسياسي الكردي المستقل، ان الاكراد قلقون من خسارة كل المكتسبات التي حققوها، وبالتالي البدء من جديد من الصفر، واضاف ان خيبة أمل الاكراد بدأت عندما لم يُعطوا منصبا من المنصبين الرئيسيين في السلطة، رئاسة الجمهورية او رئاسة الحكومة، «نحن نرى ان العراق مكون من اثنيتين، العرب والاكراد، فاذا تبوأ العرب احد هذين المركزين، فان الاكراد يجب ان يتبؤوا تلقائيا المركز الثاني».

للخروج من هذا المأزق يفكر الاكراد باجراء استفتاء حول مطالبهم في كردستان، ولكن، حسب أحد السياسيين البريطانيين، فان على الاكراد ان لا يلجأوا الى مثل هذا الاستفتاء المعروفة نتائجه مسبقا، لأن هناك من سيطالبهم بطرح مثل هذا الاستفتاء حول حق تقرير مصير شمال العراق على كافة الشعب العراقي، وعليهم بالتالي ألا يعلقوا كل آمالهم على الدستور الانتقالي، لأن كل قانون اتخذ في ظل الاحتلال لن يعتبر اساسا شرعيا لاقامة الدولة، فأي تغيير في الدولة العراقية المقبلة يجب ان تدعمه حكومة شرعية وان يكون ضمن الدستور، وهذا الدستور يجب ان يطرح ببنوده على الاستفتاء العام.

ويلفت السياسي البريطاني الى ان الدول المجاورة للعراق، تركيا وايران وسوريا تعارض الحكم الذاتي للاكراد في العراق لأن فيها اقليات كردية تتمتع بحقوق مدنية جد محدودة.

الملاحظ ان اقتراب تسليم السلطة الى العراقيين في نهاية هذا الشهر، يترافق مع تحرك للاكراد في كل الدول الموجودين فيها، ومؤخرا اعلن حزب العمال الكردي التركي، الذي صار اسمه «مجلس الشعب في كردستان» نهاية اتفاق وقف اطلاق النار مع القوات التركية، وزادت المناوشات والاصطدامات مع الجيش في جنوب ـ شرق تركيا، رغم ان الأخيرة اطلقت سراح بعض السياسيين الاكراد من السجن، وسمحت باللغة الكردية في الاذاعة الكردية، كمحاولة لتسهيل قبول عضويتها في الاتحاد الأوروبي. بعدها اعلن الاتحاد العام للمنظمات الكردية الذي يمثل الأقليات الكردية في روسيا وكازاخستان وارمينيا انه يوافق على انهاء وقف اطلاق النار بين الاكراد والقوات التركية، وتزامن هذا مع تهديد الاكراد العراقيين بمقاطعة العملية السياسية. ورغم التهدئة التي عاد والتزم بها بارزاني وطالباني، إلا ان تعليقا صحفيا صدر في احدى الصحف الكردية في اربيل في الثالث عشر من الشهر الجاري، اتهم الاميركيين بالتدخل في الشؤون الكردية والتسبب بمشاكل للحكومة المحلية، وانهم تراجعوا عن كل وعودهم ويعارضون حتى مساواة اللغة الكردية باللغة العربية في العراق. وقال التعليق في صحيفة «غوفاري غولان»: «ان الاميركيين اعادوا الى ذاكرة كل كردي تفاصيل اتفاقية الجزائر التي وقعها عام 1975 صدام حسين مع شاه ايران، بحيث تخلى الأخير عن دعمه للاكراد مقابل تخلي صدام حسين عن نصف شط العرب لايران، وبدأت معها مرحلة جديدة من الألم والقهر في حياة الاكراد».

قبل اشهر، وبسبب تزايد عمليات المقاومة في العراق وضعت واشنطن مسودة دستور مؤقت رفعت فيه آمال الاكراد بحيث منحتهم حق النقض على توجُهات الحكومة الانتقالية، والحكومة التي ستشكل عام 2005. لقد شعرت ادارة الرئيس بوش بانه في استطاعتها استعمال الاكراد، ككيان، للضغط على الشيعة لمنع ايجاد نظام ديني في العراق شبيه بالنظام الايراني. وبعد تشكيل الحكومة الجديدة وملئها بعلمانيين من شيعة وسنة، لم تعد هناك حاجة لواشنطن للاكراد، وبالتالي صارت كل الأطراف ترى الاكراد حجر عثرة او معرقلي حل تبناه قرار دولي. وربما اخطأ الاكراد في تهديدهم باللجوء الى العنف لتحقيق مطالبهم، لكن الخطأ الكبير ارتكبته واشنطن بحقهم، فهي استعملتهم اولا، وتكاد ان تتخلى عنهم ثانيا.

ان الاكراد الآن في ورطة، فهناك أمل ضعيف بأن ينالوا مطالبهم بموافقة السنة والشيعة او ان يقتنعوا بما يمكن ان يعرضه عليهم السنة والشيعة، لكن في الحالتين ومع اقتراب الثلاثين من الشهر سيبقون محركا اساسيا للاحداث في العراق، ويقول جوزيف ستروب المرافق للقضية الكردية منذ سنوات بعيدة، ان الولايات المتحدة اخرجت الطموح الكردي من القمقم، ليس في العراق فحسب بل في المنطقة كلها. ومن الصعب اعادته الى قعر القمقم، واذا لم يتم التوصل الى حل سلمي يرضي الأطراف العراقية الثلاثة، وهذا أمر مشكوك باحتماله، عندها ستزداد الحاجة الى قوة عسكرية في كل المنطقة للسيطرة على التمرد الكردي، وهذه القوة العسكرية يُحتاج اليها في شمال العراق وتركيا وسوريا وايران وارمينيا واذربيجان. ويضيف ستروب، ان تسليم السلطة للعراقيين لن يغير شيئا اكثر من زيادة الوضع سوءاً في العراق، وسنرى تركيا وسوريا تتعاونان عسكريا لضمان مصالحهما في شمال العراق، ولا ننسى انه ما زالت هناك قاعدتان عسكريتان تركيتان، وسنرى في جنوب العراق تعاونا اكثر مع ايران، ولا بد ان ايران تهيئ نفسها عسكريا لمرحلة ما بعد حزيران (يونيو)، ولأن اميركا لا تريد ان تكون قواتها في الوسط فسوف تسارع الى تنفيذ استراتيجية الخروج. ويؤكد ستروب، ان الهدوء في الشمال هو الهدوء الذي يسبق العاصفة الهوجاء، واذا حرك الاكراد العريضة التي وقع عليها مليون و700 الف كردي من اجل الدعوة الى استفتاء حول حق تقرير المصير، واذا نتج عن هذا الاستفتاء اعلان الاكراد لاستقلالهم، فيجب ان لا ننسى ان البرلمان التركي صوت العام الماضي على غزو العراق، اذا ما اعلن الاكراد عن هذا الاستقلال.. ويرى ستروب ان الأمور لن تكون سهلة خصوصا بعدما تحرك الاكراد في سوريا ويتحركون في تركيا، ولن يقبلوا دفع ثمن الوعود الناقصة في العراق...

في النهاية، لتجنب مرحلة جديدة من الدماء والمعارك في العراق، من الضروري ان تعترف الاكثرية بحقوق الأقليات وتحميها، فهذا يمنع الاكثرية من اللجوء الى التسلط ويمنع الأقليات من الغرق في اليأس واللجوء الى ارتكاب القتل والانتحار البطيء بحق الدولة التي يعيشون فيها وبحق انفسهم.