ثقافة الإصلاح وثغرة النظر

TT

يذهب المفكر الفرنسي (من أصل جزائري) زكي العائدي، في مقالة هامة حول إشكالية تصدير الديمقراطية (لبراسون 14/6/2004)، إلى أن المشروع الأميركي لإصلاح الشرق الأوسط الكبير الذي يتمحور حول مرتكزات ثلاثة، هي إقامة الديمقراطية والحكم الصالح وتنمية اقتصاد المعرفة ودعم منطق السوق، يقوم على مصادرة خاطئة، هي اعتبار إجراءات التعددية الديمقراطية شرطًا آليًا لحل أوضاع هذه المنطقة الواسعة التي تطرح تحديًا أمنيًا متفاقمًا للمصالح الأميركية الحيوية.

وينبه العائدي إلى أن هذه المقاربة تعاني من ثغرات كبرى، من بينها اعتبار الديمقراطية مجرد مسألة إجرائية تحل عن طريق الدساتير والقوانين، بينما هي في الحقيقة ثقافة ومسار فكري بطيء من خلاله يستبطن المجتمع قيم التسامح والتعددية، فتشكل القوى الديمقراطية التي تحمي هذا الخيار وتدافع عنه.

أما في البلدان العربية الإسلامية، فلا تزال هذه الثقافة غائبة، وقوى التغيير الديمقراطية مفقودة، والفكرة القومية في أوجها والتدخل الخارجي مشبوه مدان.

ويؤكد العائدي هنا تصورًا كثيرًا ما يقدمه المتشائمون حول إصلاح الأوضاع السياسية العربية، الذين يعتبرون أن أنظمة الحكم ليست هي العائق دون التحول المنشود، وإنما الاشكال كله في المجتمع ثقافة وتقاليد وتنظيمات أهلية. بل إن أنظمة الحكم في الكثير من البلدان تتقدم على الشارع في تبني الخيار الإصلاحي التحديثي، كما هو الشأن في دول الخليج المحافظة.

ولا شك ان لهذا الرأي بعض الوجاهة التي لا تنكر، بيد أنه يضعنا أمام اشكالين عصيين، أحدهما نظري يتعلق بطبيعة الثقافة العربية الإسلامية التي يحكم عليها ضمنيًا بالانغلاق والتعصب والأحادية، وثانيهما إجرائي يتعلق بمدى واقعية وموضوعية المطلب الديمقراطي ما دام المجتمع في العمق غير مؤهل له ولا يريده ولم يفرز القوى التي من شأنها تحصينه وحمايته.

فبالنسبة للإشكالية الأولى، لا بد من الإشارة إلى أن البت في هذا الموضوع النظري المعقد، يقتضي بدءًا حسم جملة من الإشكالات التي لا تدخل في نطاق اهتمامنا الحالي مثل علاقة الدين بالدولة في نسيجنا التراثي، والنظرة للآخر ضمن التصورات والأنساق السلوكية والتشريعية القائمة، وطبيعة الهوية الثقافية للمجتمعات العربية الإسلامية المعاصرة التي لا تنحصر في المكون الموروث وحده.

ودون الولوج في هذا الحوار المتشعب الثري، نكتفي بالإشارة إلى ثلاث ملاحظات أساسية:

أولاها: إن ثقافتنا تنضح بقيم الاختلاف والتسامح. وإذا كانت بعض الدراسات الفلسفية والاجتماعية قد بينت تأسس فكرة الحرية على مبدأ الذاتية الروحية الذي أرسته الديانات التوحيدية، فإن الإسلام، من حيث كونه أبعد هذه الديانات في تنزيه الخالق وتأكيد مفارقته للإنسان، مع تخويل الإنسان حرية الاعتقاد، ونزع القداسة عن الدولة قدم العدة النظرية والقيمية الضرورية لاستنبات مثل التسامح والاختلاف التي هي بدون شك من مكاسب العصور الحديثة.

ثانيها: لا بد من الإقرار ان ثمة عوائق موضوعية داخل النسق الثقافي المشترك تحول دون استبطان المفاهيم والنظم الديمقراطية. ويتعلق الأمر هنا بمدونة الأحكام السلطانية التي تترجم حالة تاريخية ونماذج سياسية تلبست لبوسًا المرجعية الإسلامية وغدت جزءًا من الثقافة المشتركة.

ثالثها: أثبتت تجارب عديدة في الفضاء الإسلامي الواسع، قدرة المجتمعات ذات الخلفية الثقافية الإسلامية، بما فيها بعض أكثر المجتمعات تخلفًا اقتصاديًا، على استيعاب النظم الديمقراطية ضمن نسيجها التراثي والقيمي التقليدي. تكفي الإشارة هنا إلى تجارب بنغلادش وماليزيا في آسيا والسنغال ومالي في أفريقيا.

والمعروف ان التهمة ذاتها كانت توجه للثقافتين الارثوذوكسية والكاثوليكية في أوروبا، وتتخذ مفتاحًا لتفسير تأخر بلدان أوروبا الجنوبية عن المسار الديمقراطي في باقي القارة، وقد انكشف زيفها.

والواقع أن الدين، من حيث هو رأسمال ثقافي، قابل لأنماط شتى من التصرف والتسيير، وليس عائقًا أمام صيغ إدارة الحقل السياسي التي ترتبط بالديناميكات الاجتماعية والتاريخية.

أما الإشكال الإجرائي العملي فيتعلق بزاوية ضبط الرهان السياسي للمجتمعات العربية، التي لا تتوفر فيها بالتأكيد تشكيلة المجتمع المدني المألوف في المجتمعات الديمقراطية، كما ان التنظيمات الحزبية فيها هشة في الغالب منذ انحسار أحزاب التحرر الوطني الشعبية. بيد ان هذا الفهم القاصر لديناميكية الحقل السياسي العربي، يغفل العديد من العناصر الفاعلة الأخرى التي تسير في اتجاه الإصلاح الديمقراطي.

لقد بين لنا ميشال فوكو في أعماله الأخيرة، التي أدخلت ثورة كبرى في الدراسات الاجتماعية والسياسية، ان رهان السلطة لا ينحصر في موازين الحكم وأشكال التعبير عنها. ولهذا الغرض بلور مفهومًا جديدًا هو «الحاكمية» التي تعني مختلف مظاهر وتجليات الممارسة السياسية في أنشطتها العملية وتمثلاتها النظرية، من خلال رصد شتى استراتيجيات الفاعلين في الحقل السياسي بمن فيهم الذين لا ينتمون له في الظاهر.

وقد استنتج بعض علماء الاجتماع السياسي من هذا التصور براديغم «الأنماط الشعبية للفعل السياسي» أو«السياسة من الأسفل»، لرصد رهانات واستراتيجيات الحقل السياسي، خصوصًا في المجتمعات الجنوبية التي تتعايش فيها الدولة الوطنية الجديدة بأنماط الانتماء العشائري والعرقي والطائفي.

وبالرجوع إلى الحالة العربية، ندرك بوضوح ان المطلب الإصلاحي يسلك قنوات عديدة لا تنحصر في خطاب النخبة السياسية ولا الوسط الثقافي وتشكيلات المجتمع المدني الجنينية، وإنما أيضًا في الإعلام الذي بات يشكل الأداة الأولى في الصناعة الثقافة العربية، وفي التنظيمات الأهلية التي تتكاثر على نطاق واسع في الساحة العربية، وهي في حقيقتها صيغة مؤسسية جديدة تجمع بين العمل التطوعي الاجتماعي والعمل السياسي غير المباشر، من دون اصطدام بأنظمة الحكم، بل إن الأنظمة نفسها غدت حريصة على استحداث مثل هذه المنابر لاستكناه تصورات وتطلعات رأي عام حي يموج بالحركة، وإن كانت التشكيلات السياسية والحزبية القائمة عاجزة عن التعبير عنه.

فمن الخلف إذن القول «ان الديمقراطية العربية بدون ديمقراطيين» حسب العبارة التي استخدمها بعض المفكرين العرب في مطلع التسعينيات.

ولا شك أن التجربة العراقية الراهنة على مساوئها وحدودها البارزة، قد بينت حقيقة وجود مجتمع مدني متماسك، وقوى سياسية مسؤولة لم تجرفها ديناميكية الصراعات الأهلية التي سعت إلى تفجيرها قوة الاحتلال والمجموعات الإرهابية معًا. ولقد اضطلعت المؤسستان الدينية والعشائرية بدور محوري في هذا المكسب، وإن كان ينظر اليهما دوما بصفتهما من عوائق التحول الديمقراطي.