الوتر روح البشر

TT

عندما ينظر الانسان الى اوركسترا كاملة لا بد ان يلاحظ كل هذه الآلات الموسيقية المتنوعة. وصل بعضها حداً بعيداً من الغرابة. قبل ايام قدمت فرقة موسيقية نمساوية في لندن حفلة موسيقية كل آلاتها مصنوعة من الخضروات والفواكه: خيار وبطيخ وجزر وهكذا. لكن مع ذلك لم تنتزع أي آلة تاج الملوكية من الآلات الوترية. بقي الوتر جالساً على عرش الموسيقى ولم يستطع احد ترتيب انقلاب عليه وانتزاع الرئاسة منه عبر آلاف السنين. جرت أخيراً مسابقة في بريطانيا لأحزن قطعة موسيقية. كنت اتصور ان احدى الاغنيات الحزينة ستفوز بها، لكن الاكثرية صوتت لقطعة «اداجيو للوتريات»، للموسيقار باربر. بالطبع كان المحكمون بريطانيين ولم يسمعوا شيئاً من الاغاني العراقية ليعرفوا مدى ما يصل إليه الحزن.

وبين الوتريات تبرز آلة الجلو كأقدر آلة على التعبير عن اعماق العواطف الحزينة. قلما استطيع حبس دموعي عندما استمع الى كونسرتو الجلو للموسيقار البريطاني الغاد.

اذا كان الجلو يحتل هذه المكانة في الموسيقى الغربية فالعود يقابله في الموسيقى الشرقية. لمست ذلك بصورة خاصة وانا استمع للعواد العراقي احسان الامام في حفلته الاخيرة التي قدمها في النادي البولوني، احسان الامام الذي يقوم الآن بتدريس فن العود في جامعة لندن، فنان مرهف الاحساس في سلوكه كما في موسيقاه سواء اكانت من تأليفه أو تأليف زملائه. ولربما نجد ان حساسيته السلوكية هي التي حجبته عن الانوار. فهو فنان متوار لا علم له بدور العلاقات العامة في تلميع انجح الفنانين.

والعجيب ان حساسيته الشخصية لم تنعكس على سلوكه وعزفه فقط، بل وحتى على صوته ايضاً. فله صوت رخيم هادئ يحتاج دائماً إلى رفع درجة الميكروفون الى اقصاه. ليس ذلك فقط، وانما تجده عندما يغني وكأنه يغني لنفسه وليس لجمهوره. غنانا في النادي البولوني بلندن مجموعة من الموشحات الاندلسية، مشى بها ليثير هواجسنا وافكارنا بأغنية «الزمن هو الزمن». وهنا استطاع ان يخرج من شرنقته ليطلق العنان لعواطفه وهو يحس ويحسنا بالزمن يطرق على ابوابنا ولا ينفك عنا. والزمن هو ما يجيده في مسافات ضرباته على اوتار عوده.

سيقول القارىء ولكن ما هو هذا السحر الذي يجعل الاوتار اشبه ما تكون بنياط القلوب؟ لا ادري كيف اصف ذلك، لكنها تجربة تحتاج الى اختبارها بالاستماع لعزف هذا العواد الموسيقار. كانت هناك لمسات من اصابعه جعلتني اشعر وكأنه عزفها على شرايين قلبي. من يدري. ربما اضاع قلبي ضربة أو ضربتين عند سماعها.

الموسيقى العالية تستوحي دائماً الموسيقى السفلى المتمثلة في الفولكلور الشعبي. واعطانا احسان الامام في تقاسيمه تألقات منها واستعارات مثل «طالعة من بيت ابوها». يا ليته يتعمق في المسلك ويتوغل فيها ويعطينا المزيد منه في مؤلفاته الموسيقية.