الأولون عندك سوريون

TT

مع تزايد التوتر في بيروت ازداد التوتر داخل «الاسبوع العربي»، ومرة اخرى طلبني الناشر الراحل الاستاذ جورج ابو عضل، الذي كانت تجربتي القصيرة معه من امتع التجارب المهنية. فالذين عملوا معه من قبلي كانوا يرون فيه رجلاً شديد الثراء، وبالتالي لا يعرف الكثير في الصحافة. وقد اكتشفت فيه العكس تماماً. كان على دراية بكل شيء ومتقدماً في الاطلاع على شؤون التقدم، ويعرف معرفة تامة قدرات وطاقات وعجز العاملين معه. وكان يقدَّم لي صورة مضحكة في دقتها عن بعضهم، اذا ما حاولت الدفاع عنه. وفي النهاية خرجت من «الاسبوع» وانا ادافع عن هذا البعض. وانتهت تجربة شديدة الاهمية في حياتي. لكن المجموعة التي اعنيها انتهت حياتها المهنية ايضاً.

قال لي الاستاذ ابو عضل، هذه المرة: «الاعصاب مهترئة في البلد. وانا لا تشكَّل «الاسبوع العربي» من اعمالي سوى الجزء اليسير. وانت تأخذها في سياستك افاقاً لا استطيع تحملها كسياسي». سألت، مثل ماذا؟ قال: «لقد رشَّحت في افتتاحيتك الاخيرة رشيد كرامي لرئاسة الجمهورية. هل تعرف ماذا كان وقع ذلك؟ هل تعرف ماذا قال الرئيس كميل شمعون عنك؟»، قلت، وماذا ايضاً؟ قال، انك لا تقبل في العمل الا السوريين والفلسطينيين. قلت للرجل الذي لا انسى تجربتي المهنية معه: «الافتتاحية موقعة باسمي لا باسم المجلة. واما السوريون والفلسطينيون فعدَّ معي: السوري الاول في المجلة هو انت، وارجو الا تنسَ ذلك. الكاتب الاول في المجلة هو السوري نزار قباني، والكاتبة الاولى هي السورية غادة السمان، فهل «تغص» الآن ببعض الكتَّاب والمحررين؟». ومرة اخرى وضعت استقالتي في تصرفه. وقلت له لا اريد ان اكون عائقاً في وجهك ولا في وجه عملك السياسي. لكن لدي قناعات عمرها 31 عاماً لست مستعداً لتغييرها الآن.

وكان معنا زميلة فلسطينية شابة تأتي الى المكتب دائماً وكأنها لشدة حماسها انجزت للتو تحرير فلسطين. وقالت لي ذات يوم: يجب ان تذهب لمقابلة الاخ ابو اللطف. وقلت لها، لماذا «يجب»؟ فقالت لأن الاخ ابو اللطف «حابب يشوفك». ولم اكن اعرف الاخ ابو اللطف. واتصلت برفيق عمري شفيق الحوت وسألته ان كان على علم بسبب الطلب. فقال لا. و«في اي حال شو خسران؟»، وذهبت مع الزميلة التي يعوزني اسمها الآن. وانتظرنا عند مدير مكتب ابو اللطف السيد نبيل الذي اعرفه من ايام عملي في الكويت. وجلسنا ننتظر ان يؤذن لنا بالدخول على سعادة السيد ابو اللطف. وبعد قليل تبلغنا ان سعادته لن يقابلنا. طبعاً زعلت، لكنني شعرت بحرج اكثر حيال الزميلة الشابة! والعالم صغير، هذا العالم. واصبحت ارى الأخ ابو اللطف في الامم المتحدة كل عام. وكنت اكتفي بغبطة داخلية برؤيته من بعيد. لا اسلم ولا القي التحية ولا اقترب. وذات يوم سألني شفيق الحوت لماذا لا احكي مع ابو اللطف. ولم اجب. واتمنى انه يقرأ هذه الكلمات الآن. وفي هذا العالم الصغير جداً، صدف ذات يوم انني كنت عائداً في باص المؤتمرات الرسمي في جاكرتا. وكان الباص خالياً الا من شاب، وسيم وانا. وتعارفنا. وقال انه نجل صاحب السعادة. وكان الشاب غاية في الذكاء والادب والكياسة. وقد استاء مني عندما سألته: اين تملكت كل هذه الطباع؟ وارجو انه يقرأ هذه السطور الآن ايضاً، لأنني لم اشرح له يومها ماذا اعني. انني اشعر بصغارة في النفس عندما لا اقدر على نسيان اساءة. لكن اساءة معالي ابو اللطف من النوع الذي لا ينسى.

الى اللقاء